
لماذا مجلس الشيوخ اللبناني ؟ د.هشام الأعور
مجلس الشيوخ ومسألة تطبيقه في لبنان
تتميز بعض المجتمعات العربية، وخصوصا المجتمع اللبناني منها، بكونها مجتمعات مركبة عرفت تنوعاً كبيراً في الإنتماء الديني – المذهبي الذي يعود تشكلّه إلى منتصف القرن الخامس الميلادي، حيث تتواجد في لبنان الأعراق والمعتقدات والشعائر والطوائف والمذاهب وأساليب التفكير والأعراف، وهذا ما دفع بميشال شيحا إلى وصف المجتمع اللبناني على أنه ائتلاف “العائلات الروحية” مع ما ينتج منه ضرورة تعزيز تنوع التمثيل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة كوسيلة لتلافي العنف خارج المؤسسات، وإستبداله بحوار بنّاء ومنفتح داخل المؤسسات بعيدا عن الشارع.
ولما كان لبنان، كما يعتبره البعض من أكثر البلدان الذي يضم في تركيبته الاجتماعية “أقليات طائفية متشاركة” ، وبالتالي لا تُحكم إلا بالتوافق والتوازنات، فهذا الأمر إستدعى وجود مؤسسة دستورية تتمثل فيها جميع مكونات المجتمع اللبناني، وتخلق للطوائف الدينية إطاراً من العيش المشترك، لذلك جاءت نشأة مجلس الشيوخ في لبنان في سياق تطور تاريخي لمبدأ مشاركة الطوائف في السلطة من خلال هيئات ذات طابع تمثيلي. فلبنان الذي إحتفظ خلال مرحلة طويلة من تاريخه بطابع خاص في بنيته الاجتماعية وتعدد طوائفه الدينية، دون سائر بلدان الشرق الادنى، قد أخذت الطائفية فيه وضعا قانونيا تسرّب إلى أنظمة الحكم منذ قيام نظام القائمقاميتين في الجبل عام 1842 ونظام المتصرفية عام 1864، من بعده، مروراً بنظام الجمهورية اللبنانية عام 1926، وصولا إلى اتفاق الطائف عام 1989 حتى أصبحت الطائفية تشكل كينونة مجتمعية – سياسية للمذهب الديني، إضافة إلى كونها ظاهرة نفسية ودينية وإجتماعية وإقتصادية وسياسية شاملة لجميع مستويات البناء المجتمعي اللبناني.
وفي حين عُبّر عن هذا الانقسام الطائفي من خلال نظام القائمقامتين الذي شكل كيانين طائفيين تم الإعتراف بهما في نص رسمي في نظام شكيب افندي. إلا أن هذا الانقسام
سرعان ما تكرّس في النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان (1861-1915). ففي 9 حزيران 1861، وعلى أثر الاضطرابات الطائفية التي إجتاحت جبل لبنان، وضعت لجنة مؤلفة من ممثلي خمس دول أوروبية بالإضافة إلى مندوب السلطنة العثمانية نظاما جديداً لجبل لبنان عُرف “بالنظام الأساسي” أو نظام المتصرفية”. فجاء هذا النظام يكرّس نوعاً من “الكونفدرالية” الطائفية تمثّلت بتشكيل أعضاء المجلسين الإداري والقضائي اللذين تألف كل منهما من 12 عضوا توزعوا طائفيا كما يلي: 4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، سني واحد، كاثوليكي واحد، شيعي واحد. وقد تولى مجلس الإدارة الأول، مساعدة المتصرف في القيام بمهامه الادارية، في حين نصت المادة الثانية من النظام الأساسي على تولي المجلس توزيع الضرائب ومراقبة الواردات وإعطاء رأيه الإستشاري في كل القضايا التي يحيلها عليه المتصرف. وقد اعتبر مجلس الادارة ممثلا للطوائف وكان الإقتراع في المجلس يتم على أساس الطوائف وهذا يعني أنه كان للطائفة صوت واحد في المجلس.
و بعد أن أنتقل لبنان من حكم السلطنة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي واعلان دولة الكبير في العام 1920، أصدر المفوض الفرنسي الجنرال “غورو” قراراً يقضي بإلغاء مجلس الادارة واقامة لجنة لبنان الإداري، عُيّن أعضائها من قبل المفوض السامي على اساس انتماءاتهم الطائفية، قبل أن يعود المفوض الفرنسي ليعلن في 23 ايار / مايو عام 1926 عن دستور للدولة اللبنانية ليتحوّل المجلس التمثيلي، الذي أنتخب لجنة من النواب لإعداد الدستور، إلى مجلس تأسيسي ومن ثم نيابي، في حين عيّن المفوض السامي إلى جانب مجلس النواب، مجلس شيوخ وعدد اعضائه ستة عشر شيخا. قبل أن تعود السلطات الفرنسية في العام 1927 وتلغي مجلس الشيوخ، وتوحيد الهيئتين اللتين يتألف منهما البرلمان في هيئة واحدة هي مجلس النواب بحجة أن مجلس الشيوخ لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة، فيصبح البرلمان اللبناني مكوّنا، منذ ذلك الوقت، من مجلس واحد هو مجلس النواب حسب ما نصت عليه المادة 16 من الدستور اللبناني.
وبينما تؤكد وثيقة الوفاق الوطني التي اُقرّت في الطائف في العام 1998 على حرفية هذه المادة الدستورية التي ما زالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، إلا انه وبموجب الإتفاق المذكور فقد اُقرّ القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21 ايلول/ سبتمبر عام 1990 إعادة إنشاء مجلس الشيوخ بموجب المادة 22 من الدستور التي ربطت عملية استحداث مجلس الشيوخ بإنتخاب اول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، حيث يُشكّل مجلس الشيوخ كصيغة حل لتجاوز الطائفية السياسية المتعاقبة فصولا منذ أن ارتسم في أفق الاجتماع اللبناني مشروع دولة متعددة الطوائف.
لقد جسّد إتفاق الطائف عام 1989 ميثاقا جديدا للسلام بين اللبنانيين، وأعاد الوحدة السياسية إلى البلاد، والمؤسسات إلى نشاطها، وأبقى التوزيع التقليدي السابق لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء بعد تحديد صلاحيات كل منها، وجعل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والوزراء.
لا مجال هنا لإستعراض كل ما أدخله إتفاق الطائف من تعديلات على الدستور، إلا أننا، ضبطاً للبحث الذي نحن بصدده، ومراعاة لحجمه وأغراضه، سنلتزم فيما نص عليه هذا الإتفاق على صعيد البرلمان وتأكيده على إنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه “العائلات الروحية” وتنحصر صلاحياته في “القضايا المصيرية”، بالشكل الذي يجعل من إنشاء المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة الطائفية التي تقيّده، والدفع بالناخبين في إتجاه خيارات عملانية وطنية لا طائفية عند صندوق الاقتراع. ما يطرح السؤال حول جهوزية بلد كلبنان، والمؤلف من ثماني عشرة طائفة مختلفة معترف بها، وتتحكم فيه موازين قوى داخلية وخارجية، عن تجاوز الطائفية السياسية عبر مجلس شيوخ يمثل الطوائف مقابل تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي وبالتالي تحوّل الانسان اللبناني من هويته الطائفية السياسية وتاليا الدفع به في اتجاه المواطنة الحقيقية.
في العام 1990، وعندما تقرّر إدخال “إصلاحات” الطائف في صلب الدستور اللبناني، تم تعديل 31 مادة من مواده، كما أضيفت إليه مقدمة تضمَّنت المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، وقد توافق النواب يومئذ، بالإجماع، على مبدأ “إلغاء الطائفية السياسية” الذي جعل منه الدستور “هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. وإن كانت هذه الترتيبات المتعلقة بمسألة الطائفية لم تكن، في ذهن واضعي إتفاق الطائف – برأي البعض – ترتيبات إنتقالية، بل أنها جاءت لتمهِّد وتُحضِّر لمرحلة لاحقة، لحظها الطائف، وصولاً إلى الهدف وهو تجاوز الطائفية بالتدرج وعلى مراحل، بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولا إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي، وعندئذ يُنشأ مجلس شيوخ تتمثَّل فيه جميع “العائلات الروحية” وتكون صلاحياته محصورة في “القضايا المصيرية”.
ولكن كيف يتجلّى مجلس الشيوخ المقترح في دستور الطائف؟ وهل أن التعديلات الدستورية في الطائف قد أحدثت تغييرات جذرية على المجلس أو أنها أبقت على روحية دستور 1926 وخطوطه العريضه لجهة تركيبة مجلس الشيوخ وصلاحياته؟ ولماذا ميَز المؤتمرون في الطائف بين استخدام تعبير “الطوائف” و”العائلات الروحية”، وما هو المقصود ب”العائلات الروحية” التي تتمثل في مجلس الشيوخ؟ وهل أن “القضايا المصيرية” هي نفسها “المواضيع الأساسية” التي وردت في المادة 65 من الدستور وتتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء، وما معنى هذه وتلك؟
بعض هذه الأسئلة لا نجد جوابا عليها في المواد الدستورية بشكل مباشر، لكنها وفق مبادئ التفسير وقواعده، فهي تفسر في ضوء إرتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي. هذه هي الفكرة الوحيدة الواضحة من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. فاتفاق الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة من هي “العائلات الروحية” التي سيكون لها تمثيل في مجلس الشيوخ، وكذلك الأمر بالنسبة لصلاحيات المجلس، إذ أن عبارة “تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية” كما وردت في المادة 22 من الدستور، لا تفيد شيئا في تعريف “القضايا المصيرية” التي سيعالجها مجلس الشيوخ.
وربما يكون ذلك قد أدى إلى خلق جدل واسع بين فقهاء القانون الدستوري الذين تصدوا لهذا التعديل بالتحليل والمناقشة والتمحيص، لاسيما وأن المشرع الدستوري لم يعدّل المادة 16 والمتعلقة بالهيئة المشترعة والتي بقيت على نصها القديم: الهيئة المشترعة واحدة هي مجلس النواب. فهل المقصود أن نظام المجلسين في لبنان لا يعني ثنائية السلطة التشريعية، أم أن المقصود فعلا أن يكون مجلس الشيوخ عبارة عن هيئة نقض ومراجعة ورقابة على مجلس النواب المنتخب على اساس غير طائفي؟
إن التباين الشديد للمواقف السياسية حول قبول ورفض نظام المجلسين يثير الكثير من التساؤلات حول العوامل التي تقف وراء هذا الاختلاف والتباين في المواقف ووجهات النظر من جهة، ومدى ملاءمة هذا النظام مع إحتياجات المجتمع اللبناني، إنطلاقا من الرؤية الموضوعية التي تراعي المصلحة العامة للبنانيين وصولا إلى تقدير جدوى إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان من عدمه.
ثمة أسباب متعددة تفرض على المجتمعات والشعوب المتعددة اللجوء إلى خيارات كانت معتمدة في الماضي القريب، والتي تحكم عمل المؤسسات الدستورية في العالم ومن بينها لبنان الذي شهدت بنية البرلمان فيه بموجب إتفاق الطائف عام 1989 تحولا نحو إستحداث غرفة ثانية، أخذت مسمى مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس النواب، فنصت المادة 22 من الدستور المعدلة بالقانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990: “مع إنتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.
وخلافا لتجربة الثنائية البرلمانية السابقة في مرحلة الإنتداب الفرنسي، التي جعلت من مجلس الشيوخ توأم مجلس النواب بحيث يكوّنان السلطة الإشتراعية عندما يلتئمان معا، أو أن ينعقد كل منهما منفردا في العقود العادية والاستثنائية، ويكادان يتشابهان في معظم صلاحياتهما الإشتراعية- بل هي نفسها- على نحو يوحي بأن كل منهما يكمّل الآخر، من خلال مواعيد الإنعقاد، والنصاب القانوني للإلتئام والتصويت فضلا عن التصويت الشفوي والإقتراع السري والمناداة بالأسماء، والجلسات السرية والعلنية، وحصانة العضو وملاحقته، وآلية طرح الثقة بالحكومة، وملء الشغور، ومواعيد تجديد الهيئة المشترعة المزدوجة، وهو ما جعلهما يشكلان معا البرلمان عندما يلتئمان، صورة منسوخة عن البرلمان الفرنسي إذ يجمع الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. بالمقابل أعتبر اتفاق الطائف مجلس الشيوخ المقترح مؤسسة دستورية مستقلة في ذاتها وصلاحياتها وتميز دورها عن مجلس النواب، رابطا عملية إنشاء مجلس الشيوخ بشرط إلغاء الطائفية السياسية حيث إشترطت المادة 22 من الدستور أن يسبق مجلس الشيوخ إنتخاب مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي.
وفي حين تنص المادة المذكورة على أن يكون مجلس الشيوخ المقترح هيئة لتمثيل الطوائف التي أتخذت لأول مرة تسمية “العائلات الروحية”، يستخدم الدستور اصطلاح “الطائفة” و“الطوائف” في المادة 24 عند الحديث عن تأليف مجلس النواب. بالمقابل تتحدث المادة 95 عن “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية” وتمثيل “الطوائف” بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الاولى. فيما تنص مقدمة الدستور فقد نصت في الفقرة (ح) على إلغاء” الطائفية السياسية” كهدف وطني، ما زالت المادة 16 من الدستور تنص بعد التعديلات الدستورية سنة 1990 على أن تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب، بعد أن عدلت هذه المادة سنة 1927 وكانت تنص: يتولى السلطة المشترعة هيئتان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. أما الصلاحيات التي نص عليها الدستور لمجلس الشيوخ فهي تنحصر في “القضايا المصيرية”. بينما إستخدمت المادة 65 من الدستور الفقرة 5 مصطلح “مواضيع أساسية” للتصويت الموصوف في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين.
وعلى الرغم من أن نظام المجلسين الذي ظهر بداية ، في المملكة المتحدة، ثم في الولايات المتحدة، وفرنسا، وتناقلته الكثير من دول العالم لاحقا، يشكل خلفية عامة من الصعب تجاهلها، إذ يستحضرها لنا القانون المقارن إستحضارا لا بد منه، على الأقل لعراقتها، إلاّ أنه لا يمكن الإكتفاء بإسقاط المقترح اللبناني على هذه التجارب المقارنة دون البحث عن مضمون مجلس الشيوخ اللبناني الذي ينفرد عن غيره ببعض الخصائص والتي تتعلق بطبيعة المجتمع اللبناني ونظامه السياسي، لذلك يلفت أحد الخبراء الدستوريين إلى أن “من يريد أن يدرس مجلس الشيوخ المقترح في الدستور يجب أن يتجرّد تماما من البرمجة الذهنية لمجالس الشيوخ في بلدان أخرى حيث عملها يأتي كغرفة ثانية لمجلس النواب، أما في لبنان، فيجب النظر اليه في إطار إدارة التعددية الدينية والثقافية وضمان حقوق الطوائف بما يتعلق بالمواد 9 و 10 و 95 من الدستور، المرسّخة للقيم اللبنانية والسلم الأهلي”.
لقد جاء إتفاق الطائف بإسناد البرلمان إلى نظام المجلسين، الأول للنواب والثاني للشيوخ، بشكل يتوافق مع ظروف لبنان الذي يتميز بالتنوع الديني والطائفي، حيث يتم الخضوع لممثلي الأغلبية في مجلس النواب المنتخب من خارج القيد الطائفي من جهة، وتمكين الطوائف الدينية من أن يكون لها دور فاعل ومؤثر عبر مجلس الشيوخ في ما خص “القضايا المصيرية”.
وإذا كان تجاوز الحالة الطائفية يُمثِّل الخلفية الاساس لاتفاق الطائف والذي إستجاب كما يبدو إلى مطالب فريق واسع من اللبنانيين ممن كان يطالب بإنشاء غرفة ثانية في البرلمان، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمِرون في الطائف على ذلك، نصت وثيقة الوفاق الوطني على أنه، في المرحلة الانتقالية، لا تخصص أية وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية. كما نصت على أن يُعتمد الاختصاص والكفاءة، بدلاً من قاعدة التمثيل الطائفي، في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية بإستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تطبق قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
وقد تجلَّى إجماع النواب على هذه المسألة عند إقرار تعديل المادة 95 من الدستور في العام 1990، والذي عكس حلا وسطيا، إذ لم يقرن إنشاء مجلس الشيوخ بوضع دستور جديد للبلاد، لكنه بالمقابل إشترط إلغاء الطائفية السياسية كخطوة ضرورية قبل ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة (95) من الدستور آلية محددة تتضمن قيام مجلس النواب “المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين” بتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية، حيث تتولى هذه الهيئة إقرار خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء. أكثر من ذلك، فقد توافق النواب بالإجماع، كما ذكرنا سابقاً، على إضافة مبدأ “إلغاء الطائفية السياسية” في صلب مقدمة الدستور في حين أن هذا المبدأ لم يكن ملحوظاً ضمن المبادئ العامة الواردة في اتفاق الطائف.
ولكن، وإن كان إتفاق الطائف قد وضع يده على مكمن الداء، فحدَّد الهدف بوضوح، ورسم الآلية الواجب إتباعها للوصول إلى هذا الهدف، من دون أن يُغفل أن الطريق طويل، وأن ثمة مراحل لا بد من المرور بها، نرى أن الطائف لا يقدم أي تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلسين أو غرفتين تقومان على أسس مختلفة، فهناك غموض كبير يحيط بالصيغ المحتملة لنظام الثنائية البرلمانية في لبنان لناحية تركيبة مجلس الشيوخ وأساس تكوينه، مدة الحكم، أساليب الإنتخاب، وصلاحياته، وغيرها من الأمور الأخرى التي تبقى غير مستطلعة إلى حد كبير.
وإذا كان من مقتضيات تفسير القواعد الدستورية العودة إلى الأعمال التمهيدية، كالأسباب الموجبة وتقارير اللجان ومناقشات النواب، فلا بد من التوقف عند الأسباب الموجبة والمناقشات البرلمانية والأعمال التحضيرية والإجتهاد، والإجتهاد المقارن وروحية النص والتمعن أيضا في مختلف الظروف المحيطة التي رافقت ولادة نص المادة (22) من الدستور وتلمس قدر الإمكان حكمة التشريع في الأسباب الموجبة لإنشاء مجلس الشيوخ اللبناني.
فبالعودة إلى التجربة السابقة، فقد سبق للبنان، كما أسلفنا، أن اعتمد نظام المجلسين (الشيوخ والنواب) في دستور 1926 خلال فترة الانتداب، حيث استوحى الدستور اللبناني قواعد الجمهورية الفرنسية وجعل السلطة التشريعية مؤلفة من هيئتين: الشيوخ والنواب، قبل أن تعود
سلطات الانتداب وتلغي مجلس الشيوخ في العام 1927 لانه لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة. لذلك لا يعتد إذا بالعودة إلى التجربة السابقة.
أما بالنسبة إلى الأسباب الموجبة فهي مختصرة وتتعلق بكل التعديلات الدستورية التي أقرها إتفاق الوفاق الوطني في الطائف، وهي لا تصرح بشيء خاص عن مجلس الشيوخ، في حين أن المناقشات البرلمانية فلا تلحظ هذا الأمر، لأن التعديلات الدستورية أقرّت دفعة واحدة وفي جلسة نيابية واحدة، تطبيقا لإتفاق الوفاق الوطني في الطائف.
وأما وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف واعتبرت مرجعا لهذه التعديلات فهي أيضا ذكرت حرفيا في الفقرة 7 من بند 2 (الاصلاحات السياسية) نص المادة (22) كما وردت من الدستور المعدّل عام 1990. كما أن مطالب القوى السياسية والمناخات سواء تلك التي سبقت أو رافقت إقرار اتفاق الطائف وفلسفة الإصلاحات والمؤسسات التي تم الإتفاق على إستحداثها أو تعديلها، لا تقدم جميعها أيضا شرحاً وافيا لنص المادة (22) من الدستور.
وعليه، فإن النص على إستحداث مجلس للشيوخ، بموجب دستور الطائف، يتخلّله ضمنا إبهام على مستوى المادة (22) من الدستور وعدم وضوحها لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد “القضايا” التي تنطبق عليها صفة “المصيرية”، لذلك يصبح من الضروري أن نتناول في بحثنا لموضوع الهيئة الوطنية ، والإشارة إلى كيفية مساهمة مجلس الشيوخ المقترح في بناء نظام ديمقراطي يضمن حقوق” العائلات الروحية” ، ومن خلال تحديد صلاحياته ووظائفه، والتي يقع من ضمنها موضوع “القضايا المصيرية” .
الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية:
لقد حاول الدستور المنبثق عن إتفاق الطائف أن ينأى قدر الإمكان عن الطائفية وآثارها السلبية، واعدا بإقصائها عن دورة الحياة السياسية في المستقبل، ومفضلا عليها عبارة “العائلات الروحية”. فقد ورد في الفقرة السابعة من قسم الاصلاحات السياسية في اتفاق الطاف سنة 1989 المادة 22 منه: “مع إنتخاب أول مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.
في مقابل هذه المادة، كان دستور الطائف، كلّما ذكر الطائفية، ربطها بمدلول سلبي في غالب الأحيان، ومن قبيل ذلك قوله، في البند (ح) من المقدمة “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني”، وفي المادة 22 كما سبق البيان: “مع انتخاب اول مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي”، وفي المادة 24: “وإلى أن يضع مجلس النواب قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي”، وفي المادة 95 : “على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق الطائفية السياسية.”
وأنطلاقا من هذه المواد الدستورية نرى، أن الدستور اللبناني حدد أربعة مراحل تتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، حيث تبدأ المرحلة الأولى بإنجاز مهمة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، لتأتي من بعدها المرحلة الثانية والتي تتضمن إنجاز مهمة الهيئة الوطنية التي تندرج تحت مهام ثلاثة وهي:
درس وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية
تقديمها إلى مجلس النواب
ومتابعة الخطة المرحلية
مرورا بالمرحلة الثالثة، وهي المرحلة الإنتقالية وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وصولا إلى المرحلة الرابعة التي تقوم على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، بإستثناء وظائف الفئة الأولى فيها أو ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الإختصاص والكفاءة.
وبعد إتمام جميع المراحل التمهيدية والإنتقالية المذكورة أعلاه، يصار إلى:
أ) إقرار قانون انتخابات نيابية على أساس وطني لاطائفي،
ب) إنتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي،
ج) إستحداث مجلس للشيوخ، مع أول مجلس نواب وطني لاطائفي.
لذلك يمكن القول، ووفقاً للتعديل الدستوري الذي جرى عام 1990، أن المشرّع لم يكتف بما أورده في الفقرة (ز) من مقدمة الدستور، من “أن إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتصي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”، بل ذهب أبعد من ذلك، حين وضع آلية لتحقيق هذا الهدف، نصَّت عليها المادة 95 حيث أوكلت إلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بإتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، إلا أن هذه المادة رأت أنه من الأفضل خلال الفترة الانتقالية للجمهورية تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاية في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة المختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، بإستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها حيث تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.
كما يتضح من قراءة المادة 95 من الدستور، أن المشرّع الدستوري حدّد الآلية الواجب اعتمادها من قبل مجلس النواب، لإلغاء الطائفية السياسية، وهي تتضمن شقّين: الأول خطة مرحلية، والثاني تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، لدراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
ولا عجب، أن يكون تعديل المادة 95 من الدستور قد حاز، في حينه، على إجماع النواب، من دون نقاش، لأن إتفاق الطائف الذي أرسى قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن العدد، إنما وضع ذلك في إطار رؤية للمستقبل تهدف إلى تجاوز الحالة الطائفية عن طريق إلغاء الطائفية السياسية على مراحل. والجدير بالذكر أن النواب، لدى إقرار مقدمة الدستور، من أجل تضمينها المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، ارتأوا تعديل الفقرة (ح) من الوثيقة التي كانت تنص على مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية بإستبداله بمبدأ آخر هو إالغاء الطائفية السياسية. حيث أصبحت الفقرة المذكورة في الدستور تنص على أن “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. وتدليلا على الأهمية التي أولاها المؤتمرون في الطائف على تجاوز الطائفية، نصت الوثيقة على أنه، في المرحلة الانتقالية، لا تخصص أية وظيفة لأية طائفة، ويلغى ذكر الطائفية والمذهب في بطاقة الهوية.
وإذا كان موضوع تشكيل الهيئة الوطنية يندرج في سياق التوجه العام الذي توافق عليه النواب، في حينه، بالإجماع، وأصبح موجبا دستوريا ملزما منذ العام 1992، أي منذ إنتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ولكن كيف تُنشأ الهيئة الوطنية، وهل يمكن لها أن تمارس عملها وتقترح على المراجع المختصة خطة متكاملة تنفذ على مراحل؟ وهل ستعمل على إلغاء الطائفية السياسية فحسب، أم أن عملها سيشمل على إلغاء الطائفية برمتها؟ وأساسا هل من المستطاع إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية؟
ففي حين لا يلحظ النص الدستوري آلية محددة لتشكيل الهيئة الوطنية، إلا أنه يمكن الأخذ بواحد من أمرين أو الإثنين معا: فرئاسة الهيئة منوطة برئيس الجمهورية وبالتالي يمكن أن الإجتهاد للقول الرئيس هو الذي يشكلها. كما أن النص قد حدد توقيت تشكيلها بإنتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين مما يؤدي إلى الإجتهاد بالقول أن صلاحية التشكيل تعود إلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وبذلك يكون مجلس النواب ملزم بممارسة تلك الصلاحية تطبيقا لما ورد في مستهل المادة 95 التي تحدثت عن إنشاء الهيئة وليس عن مجرد طرح يرمي إلى إنشائها لأن إجراءات الإلغاء باتت مرتبطة فيها.
أما عن مهمة الهيئة، فإنها تقتصر على درس وتمحيص الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، بعمق ودراية وحكمة ومسؤولية، والتوافق عليها حسب النظام الداخلي الذي يرعى أعمالها. وبعد ذلك ترفع الهيئة المقترحات الملائمة إلى كل من مجلس النواب ومجلس الوزراء لإقرارها دستوريا، كما تتولى أيضا متابعة تنفيذ الخطة المرحلية التي ينبغي على مجلس النواب وضعها.
وينتج عما تقدّم، أن الهيئة الوطنية لا تملك دستوريا أو قانونيا، صلاحية إتخاذ قرارات نافذة وملزمة تتعلق بإلغاء الطائفية السياسية أي إلغاء طائفية المراكز السياسية، بل أن مهمتها تنحصر في تقديم التوصيات والإقتراحات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية فقط. في حين يبقى المرجع الصالح لإلغاء الطائفية السياسية هما مجلسي النواب والوزراء، وأن القرار النهائي بهذا الشأن يعود حصرا إلى مجلس النواب لإقرار إلغاء الطائفية السياسية، عبر قانون دستوري، توافق عليع غالبية الثلثين.
وعليه، فإن تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن يعني أن الطائفية قد أُلغيت بل أن مسيرة التفكير والبحث عن انجع الوسائل لإلغائها قد بدأت. إلا أن صياغة هذا الأمر على ما يبدو في المادة 95 من الدستور لم تكن واضحة عند الكثيرين. ففيما تذكر المادة المذكورة أن على مجلس النواب إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق “إلغاء الطائفية السياسية” وفق خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، سرعان ما تتحدث في السياق عينه، عن مهمة الهيئة المذكورة في دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة “بإلغاء الطائفية” وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة، حتى أصبح الأمر بذلك هدفا وطنيا. ألأمر الذي دفع عدد من الدستوريين للحديث عن وجود تناقض مقصود أو غير مقصود في المادة 95، أو أقله غموض كان من المفترض إيضاحه حول مسألة إلغاء “الطائفية السياسية أو “الطائفية”، لأن الدستور لا يقدّم إجابات شافية حول هذه المسألة، فبالعودة إلى النصوص الدستورية نرى أن هناك إشارات واضحة إلى الأمرين معا، أي إلى ضرورة إلغاء ا”لطائفية السياسية” وإلى إلغاء “الطائفية”. ولكن، بين هذا وذاك فرق كبير. فإلغاء الطائفية السياسية يعني كما أشرنا سابقا، إلغاء طائفية المناصب والوظائف والحصص، وإلغاء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي، وإلغاء المناصفة في موظفي الفئة الأولى، وبالتالي إلغاء الديمقراطية التوافقية ليعمل محلها الديمقراطية العددية مقابل ضمان حقوق الطوائف الدينية عبر مجلس الشيوخ.
وفي هذا المجال نشير إلى أن المادة 95 من دستور الطائف، والتي تقترح تشكيل هيئة وطنية مهمتها إقتراح الوسائل الكفيلة بإلغاء الطائفية، وليس إلغاء الطائفية السياسية فقط. والفرق بين الأمرين كبير، فإلغاء الطائفية يعني إرساء ركائز دولة المواطنة المدنية. أما إلغاء الطائفية السياسية فقط يعني إلغاء المساواة عبر تكريس القوة العددية. والمادة 95 نفسها شددت على إعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، بناء على المواطنة، وليس بناء على المحسوبية والزبائنية.
وبرأينا، فإن نص المادة 95 قد أـشار بوضوح إلى الغاء الطائفية أولاً، ومن ثم الطائفية السياسية، وهذا يتطلب في الدرجة الأولى إتخاذ خطوات عملية قائمة على بناء المجتمع المدني أو العلماني، فلا بديل من الشراكة إلا الوحدة، وما دام لبنان متعدد الطوائف والمذاهب فلا يمكن أن يجد وحدته إلا عبر العلمنة، وهذا هدف حضاري ولكن متعذر التحقيق إلى حد الإستحالة، لأن الأنظمة التي تفصل بين الدين والدولة مطبقة داخل البيئات ذات الدين الواحد كما هو الحال في المجتمعات الغربية. كما أن البلدان التعددية مثل لبنان لا يمكن، أن تعبر إلى العلمانية إلا عبر تنشئة وطنية موحدة، وإقرار قانون واحد للأحوال الشخصية تغلب فيه الحرية الفردية وحقوق الانسان التي أقرها الإعلان العالمي في الامم المتحدة، وعليه فأن لبنان لا يمكنه أن يبدأ بالغاء الطائفية السياسية في السلطة والوظائف في شكل فجائي، لأن ذلك يعرِّض عقد الشراكة الوطنية إلى الإنفراط والإنهيار، ويفجر حربا أهلية من جديد.
العائلات الروحية:
تقوم فلسفة إتفاق الطائف على فكرتين أساسيتين : فكرة ضمانة الجماعات، وفكرة ضمانة ألفرد وحقوقه كمواطن، وفي حين يكون ضمان الجماعات موجودا في مجلس الشيوخ، فإن ضمانة الفرد وحقوقه هي في إلغاء الطائفية السياسية.
وفي حين يستخدم الدستور اللبناني مصطلح “الطوائف” و”حقوق الطوائف” كما جاء في المادة 95 من دستور 1926 والمادة (10) من حقوق اللبنانيين وواجباتهم، وكذلك الأمر بالنسبة للمادة 9 من الدستور التي أستخدمت تعبير “الأديان والمذاهب” في معرض الحديث عن حرية الإعتقاد وحماية الدولة لها، نرى أن إتفاق الطائف قد إستخدم أيضا مصطلح “الطائفة” و “الطوائف” في المادة (24) عند الحديث عن تأليف مجلس النواب، في حين تتحدث المادة (95) عن “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية” وتمثيل “الطوائف” بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الاولى والوظائف العامة، قبل أن يعود الاتفاق المذكور ليتحدث عن مجلس الشيوخ كهيئة لتمثيل الطوائف التي أتخذت لأول مرة تسمية “العائلات الروحية”.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن النظام السياسي اللبناني بأخذه نظام الغرفتين في دستور الطائف انما أراد أن يشرك “العائلات الروحية” نظرا لما تتمتع به هذه العائلات من دور هام والإقرار بدورها الوطني، خاصة وأن هذه “العائلات الروحية” تكاد لا تكون أديانا على قدر ما هي مؤسسات إجتماعية وسياسية وعائلات روحية كبرى اجتماعية بالمعنى الصحيح. فالطابع السياسي أو بالأحرى الرابطة الاجتماعية والعصبية هي الغالبة، ويكاد يكون لبنان على حد قول جواد بولس “إتحادا فيدراليا للعائلات الروحية”. فكل هذه الوجوه وسواها مما تشكله العائلات الروحية من تراث متكاثف منحدر من أقصى سلالم العصور على حد تعبير كمال جنبلاط يضفي على الواقع اللبناني صبغته المميزة الخاصة التي قد لا يماثله بها أي بلد آخر في العالم.
بالمقابل ينظر البعض الآخر إلى مجلس الشيوخ بإعتباره المكان المناسب لتمثيل الطوائف الدينية، ليس كمؤسسات سياسية، بل كمؤسسات دينية وثقافية فأسبغوا عليها صفة “العائلات الروحية” التي ترد لأول مرة في نص دستوري، وبذلك يصبح مجلس الشيوخ المكان المناسب” للعائلات الروحية” للبحث في هواجسها ومخاوفها إزاء الكيان ونظام الحكم وسواها وليس مجلس النواب المنتخب عبر قانون غير طائفي، وفي حين يرى الرئيس ميشال سليمان أنه على مستوى مجلس الشيوخ هناك تركيبة يجب أن يتفق عليها لجهة تشكيل هذا المجلس، لأن الدستور يقول بتمثيل “العائلات الروحية” ولا يقول أن كل طائفة تنتخب شيوخها في المجلس، كما أن الدستور يقول بأن الطائفية تنتهي في المجلس النيابي وفي مجلس الشيوخ تمثل “العائلات الروحية”، لكنه لم يقل أن المسيحي ينتخب المسيحي والمسلم ينتخب المسلم. ويؤكد الخبير الدستوري حسن الرفاعي أن “الدستور نص على أنه لأول مرة يطبق قانون انتخاب على مجلس وطني لا طائفي ينشأ مجلس شيوخ على أساس طائفي، فالمادة 24 تنص على أنه بإنتظار أن يكون الانتخاب على أساس وطني غير طائفي، تطبق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعندها ينشأ مجلس للشيوخ يكون إنتخابه على أساس المناصفة، لا شيوخها على أساس أن تنتخب كل طائفة شيوخها لأن العيوب عينها التي تذكر في انتخاب مجلس النواب في ” القانون الأرثوذكسي ” تطبق اذا طبقنا أن كل طائفة تنتخب شيوخها.
ويقول إن المقصود هو المناصفة، فعندما يتم الانتخاب في المجلس النيابي على اساس وطني لا يعود هناك مناصفة، تبقى المناصفة في مجلس الشيوخ اي نصف للمسيحيين ونصف للمسلمين ولكن لا يجوز ولا يحق وغير صحيح أن يفهم أن مجلس الشيوخ يمكن أن ينتخب على أساس قواعد ” القانون الأرثوذكسي”.
ويشدد على أن هذا القانون المذكور الذي يقوم على إنتخاب كل مذهب ممثليه للندوة البرلمانية لا يصلح لا لانتخابات مجلس النواب ولا لإنتخابات مجلس الشيوخ اطلاقا، فمن يقول بتطبيقه في مجلس الشيوخ، أي أن تنتخب كل طائفة شيوخها، المقصود منه الإحالة على المادة 24 أي تطبيق المناصفة والعدالة بين الطوائف.
بالمقابل هناك من يعتبر أن مجلس الشيوخ هو عبارة عن “مجلس فدرالي” أي انه يكرِّس فدرالية “العائلات الروحية” في لبنان، فإن إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع “العائلات الروحية” يعني أن هذا المجلس هو طائفي ومذهبي بإمتياز حيث تنتخب كل طائفة ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده لكي يتولوا النقاش عنها وبإسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديته، وهذا ما أكد عليه اقتراح القانون المقدم من النائبين أنور الخليل وإبراهيم عازار لانتخاب مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي واستحداث مجلس الشيوخ يتألف من ستة واربعين عضوا وتوزيعها تبعا للمحافظات والمذاهب ويتم الترشيح على أساسها وتكون مدة ولايتهم ست سنوات؛ ينتخبون على اساس النظام النسبي على ان تتوزع مقاعده مناصفة بين المسيحيين والمسلمين حيث يعود لكل ناخب ان يقترع للائحة واحدة تضم المرشحين من مذهبه من بين اللوائح المتنافسة من المذهب ذاته والذي رأى فيه البعض تعميق لطابع فدرالية الطوائف في المنتظم السياسي اللبناني، لأنه يقيم إلى جانب مجلس النواب الممثل للأمة جمعاء مجلس شيوخ ممثلا للطوائف على غرار مجلس الشيوخ الذي يمثل في الدولة الفدرالية الولايات أو الكانتونات أو الدول المتحدة. ونتذكر في هذه المناسبة كلاما للمعلم كمال جنبلاط الذي يصف لبنان بقوله: “أنه اتحاد فدرالي واقعي للقرى والأقاليم والتقاطيع الجغرافية ما بين جبل لبنان الصغير والمدن الساحلية وقد وجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية والكانتونات فلم ينجح في لبنان سوى حكم اللامركزية”.
إذاً نحن امام مصطلح جديد مأخوذ عن الفكر السياسي اللبناني الذي يستخدم “العائلات الروحية”، للدلالة على التنوع الديني والمذهبي الذي يتسم به لبنان وعلى دور أبنائها في المعادلة الوطنية، بغض النظر عن حجمها العددي، ولكنه لا يقرّ “بالعائلات الروحية” كمؤسسات سياسية، وبذلك يكون المشترع قد قصد من هذا المصطلح “العائلات الروحية” إستبعاد الصفة السياسية عنها في معرض معالجته لمسألة إلغاء الطائفية السياسية، ولم يكن الامر مجرد اصطلاح عابر وغير مطابق لنيّة المشترع، وذلك حفاظا على التعددية الطائفية والمذهبية التي يتسم به لبنان، الأمر الذي يحتاج برأينا إلى صيغة دستورية تؤمن لكل الطوائف الدينية حصصا متساوية لطمأنة الأقليات، أي أن يكون لكل من “العائلات الروحية” مقعدان أو أكثر بمعزل عن عددها أسوة بمجلس الشيوخ الأميركي حيث تتمثل كل ولاية بعضوين بمعزل عن حجمها.
ولو إفترضنا أن الوظيفة الوحيدة لمجلس الشيوخ هي أن يوفر الضمانات للطوائف التي تتوجس جميعها من إلغاء الطائفية السياسية، وذلك إستنادا إلى الدستور اللبناني الذي جعل في مقدمته من إلغاء الطائفية السياسية “هدفا وطنيا”، وحرصه على تحرير التمثيل النيابي والعمل الوظيفي من القيد الطائفي إذ لا بد للطوائف الدينية من ضمانات حتى لا يؤدي ذلك إلى طغيان طائفي أو هيمنة أو أي شكل من أشكال الإنحراف الذي ينتج عنه الغبن والشكوى، مع تأكيده أيضاً على ميثاق العيش المشترك بين المجموعات التي تؤلف النسيج الوطني اللبناني، إلّا أن فكرة تمثيل “العائلات الروحية” في مجلس الشيوخ تحت ستار إلغاء الطائفية السياسية يجب أن لا تشكل مناسبة لضرب روحية الميثاق الوطني، أن تقود إلى فرز اللبنانيين من خلال إقدام المقترعين من الطوائف المتعددة على إنتخاب ممثلين لهم من أبناء طوائفهم ومذاهبهم، بل أن الأمر يحتاج إلى مقاربة لبنانية في إطار الدولة الضامنة للوحدة والتعددية، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال من الاندماج في العلاقات اليومية والحياتية.
القضايا المصيرية:
حين نتحدث عن صلاحيات مجلس الشيوخ اللبناني من ضمن الواقع الدستوري الراهن فعلينا أن نجتهد كثيرا لتحديد ما هي القضايا التي تعتبر مصيرية، فدستور الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة ما هي صلاحيات مجلس الشيوخ المقترح، كما أن عبارة “تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية” كما وردت في المادة 22 من الدستور، بقيت ضبابية و لا تفيد شيئا في تعريف “القضايا المصيرية” التي سيعالجها مجلس الشيوخ.
وإذا كان البعض ينظر إلى مجلس الشيوخ بإعتباره أحد وسائل ادارة التنوع اللبناني من خلال الصيغ الدستورية والمؤسساتية، كما يعتبر بمثابة مؤسسة ضامنة يطمئن الطوائف ويعالج هواجسها، فيصبح من الضروري أن تشمل صلاحياته كل القوانين والمواضيع والقضايا التي تلامس الخطوط الطائفية بين اللبنانيين والمتعلقة بشؤون الطوائف ومصالحها وحقوقها وأوضاعها، على إعتبار أن هناك تاريخ طويل من الرؤى المختلفة والنقاشات المتعددة في مسائل مصيرية بين اللبنانيين وهو ما يمكن أن نسميه “التوجه التعاقدي في التعددية اللبنانية”، وذلك من أجل الحد قدر الإمكان من الخلافات بين الطوائف الدينية من خلال مجلس للشيوخ والذي يوفر لهذه لطوائف الحق في حماية الأساسيات الوطنية لديها وجودها والحفاظ على دورها داخل المجتمع اللبناني.
لذلك تعتبر بعض الإجتهادات الدستورية أن المواد الواردة في المادة 65 من الدستور هي نفسها “القضايا المصيرية” التي يجب أن يتناولها مجلس الشيوخ ضمن صلاحياته، وهو ما يؤيده الوزير زياد بارود من خلال دعوته إلى الإستئناس أو القياس على مضمون المادة الآنفة الذكر التي تحدد “المواضيع الأساسية” والتي يتطلب إقرارها موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء بإعتبارها عناوين أساسية ولها تأيثر على الكيان اللبناني وهي: تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، قرار الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الانمائية الشاملة وطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، حلّ مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء. وبهذه الطريقة يمكن طمأنة اللبنانيين إلى أن لا غلبة لفريق على آخر وإن أي اكثرية لن تستطيع أخذ البلاد إلى ما يخالف مبادئ العيش المشترك والمساواة والمواطنية الكاملة.
بالمقابل هناك من يُدرج تفسير “القضايا المصيرية” في إعطاء مجلس الشيوخ حق التصويت على القوانين المتعلقة بتنظيم علاقة الطوائف بالدولة على مثال القرار 60 ل. ر. عام 1936، أو قوانين التنظيم المباشر للطوائف الاسلامية والتنظيم غير المباشر للطوائف المسيحية واليهودية، بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالأوقاف ودور العبادة والأديرة والتربية والتعليم فيها. كما يعطى المجلس أيضا حق النظر في جميع الامور المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج ومفاعيله، البنوّة والسلطة الوالدية، التبني، الوصاية وما يرتبط بها من مسائل. إضافة إلى النظر في الأمور الأخرى التي لها الطابع المصيري والتي يتم تحديده مسبقا، والتي تتضمن القوانين الدستورية وتلك المكملة للدستور والقوانين التي تنظم السلطات العامة، والقوانين المتعلقة بالإنتخابات واللامركزية.
ويبدو أن هذا التفسير يتناسب إلى حد كبير مع الأفكار التي طرحت على الجلسات المتكررة ل”طاولة الحوار” ، برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، فبينما يقول اتفاق الطائف والدستور حول مجلس الشيوخ بأن “صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية”، يُنسب إلى أقطاب الحوار تعريف مختلف تماما لصلاحياته بأنها مرتبطة حصرا بالطوائف اللبنانية في نطاق شؤونها، وبذلك يمسي صورة مطابقة للصلاحية المنوطة برؤساء الطوائف اللبنانية في المادة 19 من الدستور حيال علاقتها بالمجلس الدستوري.
ولكن بالعودة إلى المادة 65 من الدستور نرى أن المشرّع إستخدم مصطلح “المواضيع الاساسية” وليس مصطلح “القضايا المصيرية”. وبينما يستخدم المشرّع “المواضيع الاساسية” ويحددها في 14 موضوعا لتحديد النصاب القانوني لتصويت مجلس الوزراء، فإنه يلحظ مواضيع أخرى لا يمكن إعتبارها مصيرية كي تدرج في صلاحيات مجلس الشيوخ.
ولو أردنا أن نجتهد في تحديد طبيعة مجلس الشيوخ اللبناني وتحديد ما هي القضايا التي تعتبر مصيرية، لأعتبرنا أن التطبيع مع “اسرائيل” يعتبر من الأمور المصيرية، وكذلك تعديل الدستور وإعلان حالة الطوارئ والحرب والسلم والإتفاقات والمعاهدات الدولية واللامركزية وإعادة النظر في التقسيم الاداري وقانون الانتخاب وقانون الجنسية وقوانين الأحوال الشخصية، في حين أن “المواضيع الاساسية” الأخرى لا يمكن إعتبارها مصيرية، وبالتالي لا تنطبق على صلاحيات مجلس الشيوخ، ويمكن أن يثور نقاش وجدل حول أهميتها ومصيريتها مثل: تعيين موظفي الفئة الاولى وما يعادلها، حل مجلس النواب، قانون الإنتخاب، إقالة الوزراء، وموازنة الدولة وما شابه.
ثم إذا نحن أشركنا مجلس الشيوخ في صلاحيات البت بهذه المواضيع الأساسية كلها، نقحمه حكما بالسلطة التنفيذية ويتحول حكما إلى مجلس رئاسي، أو مجلس مراقبة تطبيق الدستور. لأن تعيين الموظفين وإقالة الوزراء من أعمال الحكم التي تخضع جزئيا وبشكل ضيّق لرقابة مجلس شورى الدولة كقرارات إدارية، كما إن حصر صلاحيات مجلس الشيوخ في القضايا المصيرية يجعل مصير البلاد هنا، إلى حد كبير، بالتوافق بين الطوائف، مما يجعل فدرالية الطوائف أكثر بروزا، وقد يشكل أداة تشل الدولة في مواجهة القضايا المصيرية، خاصة إذا كان لممثلي الطوائف في مجلس الشيوخ حق النقض الفيتو.
في مطلق الأحوال، نحن امام التباس حقيقي حول وظيفة مجلس الشيوخ وعن ماهية “القضايا المصيرية” لا نجد جواباً عليه في نص دستوري تفصيلي ومحدد لدور مجلس الشيوخ اللبناني ومهماته، وصلاحياته، لكن يمكن القول ومن خلال ما ينشر عن دور الغرفة الثانية في الأنظمة الغربية التي يُفهم على أنها “صمام أمان” تحمي الأنظمة والدول والشعوب من السقوط في متاهات أخطاء وأخطار تهدد سلامة المجتمع وهيبة الدولة، فبإستثناء كل من المملكة المتحدة والدول الفدرالية، فإن الغرفة الثانية في البرلمان تنشأ في المراحل الإنتقالية لمختلف الأزمات السياسية والإجتماعية التي تتميّز بالإنقسامات العميقة في المجتمع، إذ يعد تأسيس هذه الغرفة بمثابة الوسيلة المفضّلة للبحث عن الإستقرار وتحقيق التوازن المؤسساتي والسياسي في الدولة، وذلك بحكم أنها تلعب دور المعدّل للتيارات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية الظرفية التي تسعى إلى قلب موازين المجتمع رأسا على عقب. أما في لبنان، فإن أهمية مجلس الشيوخ غير نابعة من تقليده لدساتير أخرى تأخذ بفكرة نظام المجلسين وإنما له خصوصية إستثنائية يمكن مقاربتها في ضوء إرتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وإنتخاب مجلس نيابي لا طائفي، وبالتالي التأسيس لدولةٍ مدنية مؤلفة من الطوائف، مما يؤمن التوازن الطائفي في الحياة السياسية، والحفاظ على تميّز لبنان بتعايش طوائفه، وقيمتة الإنسانية ،واستقرار عمل المؤسسات، ، ويقدّم نموذجًا لشعوب العالم عن إمكانية التعايش الحضاري.
وإذا كان من البديهي القول إنه يجب أن لا يترتب من جراء إستحداث مجلس للشيوخ حصول أي تضارب في الصلاحيات مع المجلس النيابي القائم، فإن هذا الأمر يتطلب تحديد إطار عمل مجلس الشيوخ وصلاحياته بشكل واضح كي لا يعرقل العمل التشريعي على غرار ما هو حاصل في بعض البلدان التي تتبع نظام الثنائية البرلمانية. ومن أجل الحد قدر الإمكان من التضارب المحتمل بين صلاحيات المجلسين نصت المادة 22 من الدستور على حصر صلاحيات مجلس الشيوخ “بالقضايا المصيرية”، الأمر الذي يجعلنا نستبعد فكرة انضمام المجلس العتيد إلى المشاركة في السلطة التشريعية، خاصة وأن المادة 16 الدستورية مازالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع. في حين أن المادة 22 من الدستور لم تلحظ الصفة التشريعية لمجلس الشيوخ، بل حصرت صلاحيات مجلس الشيوخ “بالقضايا المصيرية” وهي لا تتعلق بالتشريع العادي لتسيير عمل الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم.
وعليه، يصبح مجلس الشيوخ اللبناني، كما ورد في إتفاق الطائف كأحد البنود الاصلاحية السياسية لإخراج النظام السياسي من حالة الطائفية السياسية، وأهميته بأنه لا يهدف إلى تحسين تمثيل طائفة أو أكثر في السلطة على حساب الطوائف الاخرى، بل يسمح بتمثيل الطوائف وتبديد هواجسها ومخاوفها، إذ أنّ صلاحياته تتناول “قضايا مصيرية” تؤمن مشاركة كل “العائلات الروحية” في صوغ القرارات الوطنية. وبالتالي لا تصبح الطوائف الدينية خائفة ومتوجسة من بعضها البعض، وبالتوازي تحرير الحياة السياسية من التمثيل الطائفي والمذهبي مما يجعل العمل التشريعي أكثر إنسيابية وإلتصاقا بخدمة الناس بصرف النظر عن الإنتماء المذهبي والطائفي.
يتبين من خلال ما تقدّم إن فلسفة “وثيقة الوفاق الوطني” تقترح حلاً لأزمة لبنان على مرحلتين: تبدأ الأولى بتعديل المادة 95 من الدستور لتلزم أول مجلس نيابي منتخب بعد إتفاق الطائف أن يؤلف هيئة خاصة لإلغاء الطائفية السياسية. كما نصّت على المناصفة في عدد النواب المسلمين والمسيحيين، بعد أن كانت 5/6 لمصلحة المسيحيين، وألغت نسب التمثيل الطائفي في كل الوظائف الإدارية والقضائية والجيش، باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تعتمد المناصفة ولكن دون أن توجد وظيفة حكراً على طائفة معينة. وتبدأ المرحلة الثانية بإنتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وعلى أن يجري تمثيل الطوائف في مجلس للشيوخ الذي يستحدث على أن يتمتع بصلاحيات واسعة في القضايا ذات الصفة الوطنية.
وإذا كان إتفاق الطائف قد إكتفى حين وصل إلى مشكلة الطائفية الشائكة وذات الجذور العميقة بالدعوة إلى إلغائها، وهي الدعوة التي وردت في كل المواثيق والاتفاقات التي جاءت قبل الطائف، إلا أن هذا الطرح قد رأى فيه البعض “هدفا وطنيا رئيسيا” للحد من الطائفية التي غالبا ما تؤدي إلى شلل في الحكم وعدم الإستقرار، وذلك من خلال خطة مرحلية لتحقيق هذا الانجاز تبدأ بإلغاء الطائفية السياسية وتنص على اجراءات يصبح بموجبها الإستحقاق والكفاءة والاختصاص بديلاً عن الإنتماء الطائفي كمعايير لتولي المناصب الإدارة العامة (باستثناء المناصب العليا) ، وبالتالي إنتخاب مجلس للنواب خارج القيد الطائفي، مقابل مجلس للشيوخ يكون بمثابة كفيل واضح لحقوق الطوائف والمذاهب بشكل يسمح بتحويل مجلس النواب من سوق للمقايضة الطائفية إلى مركز سياسي للسلطة السياسية، وتحرير اللعبة السياسية من الخلافات على أساس طائفي ومذهبي حيث يكون المواطن هو المكوّن الاساسي بغض النظر عن دينه.
وبذلك يكون اتفاق الطائف قد رسم نهجا لتجاوز النظام الطائفي بدءا من اطلاق الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولا إلى إنتخاب مجلس للنواب على اساس وطني لا طائفي مع إنشاء مجلس شيوخ طائفي، أي تحرير مجلس النواب من التعقيدات الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيدا من الحساسيات الطائفية والمناكفات. حيث يصبح بإمكان أللبنانيين إنتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخا (سيناتور) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، مما يؤمن حماية المواطن والطائفة والمذهب في آن معا.