
قوانين الانتخاب في لبنان..أفضل الممكن / د. هشام الأعور
قوانين الانتخاب
لا تزال القوى السياسية تتخبّط في الوصول إلى اتفاقات ضرورية لتسيير عجلة الدولة، في ظلّ هاجس اقتصادي ومعيشي كبير قد تعكسه تطوّرات أزمة “كورونا” وتداعيات انفجار مرفأ بيروت على النظام السياسي .ومع انهماك القوى السياسية في تشكيل الحكومة ، وقّع وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي، مرسوم دعوة الهيئات الناخبة إلى الإنتخابات النيابية الفرعية للمقاعد الشاغرة باستقالة 8 نواب من المجلس. وأرسل المرسوم إلى رئاسة الحكومة، من دون تحديد تاريخ للإنتخابات مُعتبراً أنّه من الضروري أن تحصل قبل 13 تشرين الأوّل 2020.
ومن المفترض أن يتضمّن المرسوم، الذي لم يُنشر مضمونه بعد، تحديد موعد إجراء الإنتخابات الفرعية لملء الشغور في المواقع الثمانية الموزّعة على 6 دوائر إنتخابية هي: الشوف، عاليه، بيروت الأولى، المتن، كسروان وزغرتا ، بينها ستة مقاعد مخصّصة للموارنة، ومقعد أرمني أرثوذكس، ومقعد درزي
ويأتي توقيع المرسوم وإرساله ترجمة لنصّ المادة 41 من الدستور التي تقول ﯾﺟب اﻟﺷروع ﻓﻲ ” اذا خلا مقعد في المجلس يجب الشروع في اﻧﺗﺧﺎب اﻟﺧﻟف ﻓﻲ ﺧﻼل ﺷﮭرﯾن. وﻻ ﺗﺗﺟﺎوز ﻧﯾﺎﺑﺔ اﻟﻌﺿو اﻟﺟدﯾد أﺟل ﻧﯾﺎﺑﺔ اﻟﻌﺿو اﻟﻘدﯾم اﻟذي ﯾﺣلّ ﻣﺣﻟّﮫ.أمّا إذا خلا المقعد في المجلس قبل إنتهاء عهد نيابته بأقلّ من ستة أشهر فلا يعمد إلى إنتخاب خلف”.
وتترجم المادة 43 من قانون الإنتخاب رقم 44 /2017 نصّ المادة 41 من الدستور لجهة آلية إجراء الإنتخابات الفرعية، ولا سيما الفقرة الأولى منها التي تقول: “إذا شغر أيّ مقعد من مقاعد مجلس النواب بسبب الوفاة أو الإستقالة أو إبطال النيابة أو لأيّ سبب آخر، تجري الإنتخابات لملء المقعد الشاغر خلال شهرين من تاريخ الشغور، أو من تاريخ نشر قرار المجلس الدستوري القاضي بإبطال النيابة، في الجريدة الرسمية. لا يُصار إلى إنتخاب خلف إذا حصل الشغور في الأشهر الستة الأخيرة قبل إنتهاء ولاية المجلس””.
كذلك، حدّدت الفقرة الرابعة من هذه المادة آلية الإنتخاب وِفق التالي الفرعية لملء المقعد ” تجري الانتخابات الفرعية لملء المقعد الشاغر على مستوى الدائرة الصغرى العائد لها هذا المقعد، وِفقاً لنظام الإقتراع الأكثري على دورة واحدة، وتُحدّد مراكز الإقتراع ضمن هذه الدائرة بقرار من الوزير، أمّا إذا تخطّى الشغور المقعدين في الدائرة الإنتخابية الكبرى إعتمد نظام الإقتراع النسبي وِفق أحكام هذا القانون.
ترجع الديموقراطية إلى العصور الغابرة، فقد ذكرها الفلاسفة اليونانيون في كتبهم، كما ذكرتها التعاليم الدينية، بيد أن تطوّر الديموقراطية الحديثة يعود إلى الثورتين الفرنسية والاميركية، وتجلى التطبيق الحقيقي لذلك بعد الثورة الفرنسية «عندما اجتمعت الهيئات العمومية في 17 حزيران 1789 وأطلق النواب على أنفسهم اسم الجمعية الوطنية، وجعلوا أساس عملهم مبدأ سلطان الأمة واعلنوا انهم مكلفون بتمثيل إرادة الأمة عامة La Volonté general de la nation.
كما نجد التعريف الوجيز والبليغ للديموقراطية بالمبدأ الذي أطلقه «ابراهام لنكولن» غداة الثورة الاميركية «حكم الشعب بالشعب وللشعب». كل ذلك يفرض قيام سلطة تمثيلية تنبثق من إرادة الشعب لأن الغالبية الساحقة من المواطنين قد لا يكون لديها المعرفة أو التفرغ للاهتمام بسن القوانين والتشريعات مما يوجب عليهم تسمية ممثلين عنهم، ويتجلى ذلك في انتخاب عدد محدود من الأفراد يطلق عليهم اسم نواب Députés ليتولوا الحكم ويمارسوا السيادة والسلطة وسن القوانين نيابة عن الشعب بأكمله.
لم يكن للديمقراطية، منذ نشأتها حتى عهدها الحاضر، أن تبلغ المقام الرفيع الذي هي عليه من دون الاستناد إلى الحرية. فلقد امتزجت، في إطارها السياسي، بالحريات العامة وبالحقوق الفردية، وبدت والحرية وجهين لعملة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما، ولا تتحقّق الواحدة من دون وجود الأخرى. ومع ترسّخ الطابع الدستوري للديمقراطية، بدأت الأنظمة السياسية تكرّس، بالإضافة للحريات والحقوق، مبادئ هي في صلب الديمقراطية، كالسيادة والحكم الديمقراطي والانتخابات وغيرها.
فبموجب السيادة، يتركّز مصدر السلطات في الشعب، لتسمى معه بالسيادة الشعبية، ولم يعد الحكم الديمقراطي أن يشترك الشعب مباشرة في الحكم، بل بات حكمًا نيابيًا يتولاه نواب الشعب أو ممثلوه، من خلال انتخابات عامة تنفيذًا للفكرة الديمقراطية، فيبقى الحكم متصلاً بالشعب
وهكذا باتت الانتخابات الأسلوب الديمقراطي الأرقى للتعبير عن سيادة الشعب، والأساس الشرعي لمختلف السلطات، والأداة المثلى لاختيار الحكام أنفسهم، كما لاختيار الرقباء (النواب) بجانب هؤلاء.
وعندما تأخذ الانتخابات طابعًا تنافسيًا، فهي في ذلك إقرار بظاهرة المجتمع التعدّدي. فالمجتمع السياسي هو بطبيعة الحال تعدّدي عندما تُقبل جميع مقتضيات حرية الرأي. فللمواطنين الحق باختلاف آرائهم حول القرارات السياسية شتى، وحول مختلف الشؤون العامة، بل وأيضًا حول تنظيم المجتمع والأسس التي يجب أن يقوم عليها. فتتجلّى تعدّدية المجتمع بحرية نشر الآراء غير المنسجمة مع «السلطة»، كما في حرية التجمّع والمشاركة، وفي تعدّد الأحزاب السياسية، والمرشحين، والكتل البرلمانية في المجالس التشريعية.
ويكرّس المجتمع التعدّدي الحرية كوعي للذات، وعي كل فرد لتمايزه عن الآخر، في مجتمع يسوده التسامح على الرغم من اختلاف المصالح والمعتقدات والمواقف، كما رأى ذلك جون لوك J. Locke في كتابه «الحكم المدني ومن بعده مونتسكيو، وفولتير، أو التسامح المبني على قاعدة المساواة التي هي درع الحرية كما نادى بها جان جاك روسو في «العقد الاجتماعي
وتتعزّز أكثر ظاهرة المجتمع التعدّدي، ومعها الحاجة إلى الانتخابات بطابعها التنافسي، إذا صح التعبير، في مجتمع كالمجتمع اللبناني لا يقتصر على اختلاف الآراء السياسية فحسب، بل هو متعدّد في تكوينه ليضمّ طيفًا واسعًا من المجموعات الدينية والإثنية وحتى اللغوية. في هذا المجتمع لا تبدو الانتخابات ترفًا سياسيًا أو ديمقراطيًا، بل هي حاجة وطنية إلى الحفاظ على الكيان وضمان استمراره في المستقبل.
وإذا كان الانتخاب أساس النظام النيابي الديموقراطي، فان ذلك يوجب حتماً قيام احكام محددة ترعى آلية الاختيار وأصوله وخصائصه وهو ما يُعرف بالنظام الانتخابي أو القانون الانتخابي، والذي يعكس بالتأكيد صورة النظام حيث يحكم الدارسون من خلاله على مدى تطوّر نظام سياسي ما أو على مدى تخلفه من خلال اطلاعهم على المبادئ والأسس التي يقوم عليها القانون الانتخابي، إذ «لا وجود لديموقراطية برلمانية من دون توافر نظام انتخابي يضمن للمواطنين حق الاقتراع الحر».
وفي حين يذهب البعض إلى القول إن النظام الانتخابي هو الدستور الحقيقي والوحيد للدولة نظراً لتأثر هذا النظام بمجمل الحياة السياسية في الدولة وتأثيره فيها، غير أن لبنان لم يشهد ومنذ استقلاله عام 1943 انتظاما في قوانينه الانتخابية وفي تطبيق الدستور الذي خضع لتعديلات واصلاحات، التي خلّفت لنا تراثاً، وخلق تقاليد وأعرافاً خاصة بنا.
فمن المجالس الإدارية تعييناً وانتخاباً في عهد المتصرفية (1861-1915)، إلى زمن الانتداب والذي شهد ست دورات انتخابية في الاعوام 1922، 1925، 1929، 1934، 1937 و1943 إلى العهد الاستقلالي (ما قبل الطائف الذي شهد ثماني دورات انتخابية في الأعوام 1947، 1951، 1953، 1957، 1960، 1964، 1968 و1972 حيث تمّ التمديد ثماني مرات لهذا المجلس الأخير، وأخيراً وليس آخراً إلى المجالس النيابية المنتخبة بعد اتفاق الطائف في دورات 1992، 1996، 2000،2005 2009، 2017 .
الأنظمة الانتخابية:
ثمة العديد من الأنظمة الانتخابية التي تهدف في نهاية الأمر إلى إتاحة المجال للناخبين لاختيار من يرونه صالحًا لتمثيلهم. ينبع هذا التعدّد في الأنظمة الانتخابية أساسًا من السعي الدائم إلى استحداث ما هو أفضل وأنسب وأكثر ملاءمة وأشدّ تعبيرًا عن الإرادة الشعبية. فالنظام الانتخابي ينبغي أن يكون عادلاً وفعّالاً، بمعنى أنّه يجب أن يتساوى جميع المواطنين في ممارسة حقّهم الانتخابي، ولاسيّما إنّ السيادة الشعبية تؤول في آخر المطاف إلى الفرد الذي يمارسها في صندوق الاقتراع، وإن المساواة بين المرشحين، ويتيح تمثيل جميع شرائح المجتمع، يوفّر ويساهم في تكوين أكثريات حاكمة ومستقرّة.
أمّا أهمّ الأنظمة الانتخابية المعروفة اليوم في العالم وأبرزها، فهي: نظام الانتخاب الأكثري، ونظام الانتخاب النسبي، إلى نظام ثالث مختلط يجمع بين الأكثري والنسبي.
وقبل الشروع في شرح الأنظمة الثلاثة، لا بد من الإشارة إلى أنّ النظام الانتخابي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحجم الدائرة الانتخابية. فإذا كانت الدائرة صغيرة تضمّ عددًا قليلاً من الناخبين، ومخصّصة بمقعد نيابي واحد، وتسمّى دائرة منفردة، فالنظام المعتمد هو النظام الأكثري. أما إذا كانت الدائرة كبيرة وواسعة وتضمّ عددًا كبيرًا من الناخبين، ومخصّصة بأكثر من مقعد نيابي، فالنظام الطبيعي والصحيح الواجب اعتماده هو النظام النسبي، ولو كنا قد اعتدنا في لبنان على أشكال مختلفة.
أولاً- نظام الانتخاب الأكثري[
هو من أقدم الأنظمة الانتخابية، واعتمدته بريطانيا، مقترنًا بالدائرة الفردية، منذ القرن التاسع عشر أو ما قبل، ثم تبعتها الدول الأنكلوسكسونية ومنها الولايات المتحدة الأميركية وغيرها. يتم ممارسة هذا النظام عبر أشكال مختلفة، أهمها:
أ – الانتخاب الأكثري على دورة واحدة أو على دورتين
بمقتضى الانتخاب الأكثري البسيط، أي الذي تحسم فيه النتيجة في دورة واحدة، يفوز المرشّح الذي ينال أكثرية الأصوات، مهما كانت نسبتها من مجموع أصوات المقترعين.
أما في الانتخاب الأكثري على دورتين، فلكي المرشح عليه أن ينال الأكثرية المطلقة، أي النصف زائدًا واحدًا أو 51 % من عدد أصوات المقترعين، وذلك في الدورة الانتخابية الأولى. وإذا لم يتمكّن المرشّح من نيل هذه الغالبية، فيجري الانتخاب مجدّدًا في دورة ثانية، وفي مدة محدّدة، وهو ما يسمّى بـ«البالوتاج» ballotage، حيث يكون فائزًا في هذه الدورة من ينال أكثرية الأصوات.
ب– الانتخاب المنفرد والانتخاب على أساس اللائحة
يجري الانتخاب المنفرد في الدائرة الانتخابية التي لا تضمّ سوى مقعد نيابي واحد، بينما يتمّ الاقتراع على أساس اللائحة في الدوائر الانتخابية التي تضمّ مقعدين أو أكثر. يطبق الانتخاب المنفرد في الدوائر الصغرى التي لا تضمّ عددًا كبيرًا من الناخبين، في حين يطبّق الانتخاب الأكثري على أساس اللائحة في دوائر أوسع وأكبر، كالأقضية أو المحافظات أو المدن الكبرى.
الانتخاب على أساس اللائحة يجري بإحدى الطريقتين: الانتخاب باللائحة المعدّلة (Liste avec Panachage)، أو الانتخاب باللائحة المقفلة (Liste Bloquée). في الطريقة الأولى، يمكن للمقترع أن يُدخل تعديلاً على الأسماء المدرجة في اللائحة، سواء بالتشطيب أو التبديل، وذلك وفق رغبته وميوله السياسية، كما هو الحال في نظام الانتخاب اللبناني منذ زمن. أما في الطريقة الثانية، اللائحة المقفلة، فلا يحقّ للناخب إجراء أي تعديل في اللائحة، إذ عليه ان ينتخب واحدة من اللوائح المتنافسة من دون تعديل فيها. وعليه، يعتبر فائزًا من اللوائح المتنافسة، لملء المقاعد المخصّصة للدائرة الانتخابية، من ينال من المرشّحين أكثرية أصوات المقترعين، سواء من الدورة الأولى أو من الدورة الثانية.
يظهر الانتخاب الأكثري سهولة في التطبيق وفي معرفة النتائج. لكن يشوبه بعض المحاذير، كونه لا يعطي صورة صادقة وأمينة لحجم الأكثرية والأقلية، وبالتالي لتمثيلهما. وهو يجعل الأكثرية البسيطة في كل دائرة متحكّمة بالأقلية، التي تصبح غير ممثّلة تمثيلاً عادلاً، مهما كانت تمثّل من قوة ناخبة في الدائرة، أو على الرغم من مجموع الأصوات التي جمعتها في مختلف الدوائر الانتخابية.
في ختام مناقشتنا للنظام الانتخابي الأكثري، وقبل الانتقال إلى النظام النسبي، تقضي الضرورة بأن يتطرّق البحث بتفصيلٍ أكثر إلى الدائرة الفردية، التي صمّمت ليطبّق فيها النظام الأكثري، لا ليطبّق في دائرة أكبر، ولا ليطبّق في انتخاب على أساس اللائحة، كما هو الحال في لبنان. لأنّ النظام الأكثري، وبخلاف ما أُريدَ أن يكون عليه، يصبح نظامًا فاقدًا صحة التمثيل وعدالته، وفاقدًا بالتالي صلاحيته.
ج- الدائرة الفردية
صمّمت الدائرة الفردية أساسًا لتكون قاعدة العملية الانتخابية، بحيث أنها تضمّ عددًا غير كبير من الناخبين، ينتخبون فيها نائبًا واحدًا فقط. فالناخب يمارس المبدأ الانتخابي الديمقراطي، الذي درجت عليه الديمقراطيات العريقة: One Man One Vote، أي صوت واحد لكل رجل. فإنكلترا، التي احتفلت منذ خمسين عامًا بمرور سبعمائة عام على البرلمان الإنكليزي، تعتمد الدائرة الفردية بالنظام الأكثري نظامًا إنتخابيًا ثابتًا متين الصلاحية.
لذلك فإنّ الحكم على الدائرة الفردية، وعلى مدى صلاحيتها، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار النظام الأكثري الذي يطبّق فيها، لأنّه لا يمكن اعتماد أي نظام آخر سواه، أي لا يمكن تطبيق النسبية تحديدًا فيها، طالما يجري انتخاب نائب واحد فقط. من هنا يمكننا تبيّن حسنات الدائرة الفردية وسيئاتها ومعها النظام الأكثري.
بالإضافة إلى بساطة تطبيق النظام الأكثري فيها وسهولته، يمكن القول أنّ الدائرة الفردية توفّر المساواة بين الناخبين، حيث لا يمكن للناخب الذي يدلي بصوته أن ينتخب أكثر من مرشّحٍ واحد، على عكس الانتخاب باللائحة حيث ينتخب أكثر من مرشح في الوقت نفسه.
يعتبر أنصار الدائرة الفردية، وكما هو معمول بها في الدول الأنكلوسكسونية، أنّها تساهم في إقامة الثنائية الحزبية «Two Party-System»، أو ثلاثة أحزاب على الأكثر، فتتمحور مختلف التيارات السياسية حول تيارين أو ثلاثة، بدلاً من تشتّت الأصوات بين أحزاب صغيرة غير قادرة على الوصول إلى السلطة. يساعد هذا الاتجاه الأحزاب على التمتّع بقاعدة شعبية واسعة متحرّرة من ضغوط المصالح الفئوية والأيديولوجيات المتطرّفة، فتعمل على تحقيق البرامج الواقعية[
كما أن المرشّح في الدائرة الفردية يكون عادةً أكثر قربًا من ناخبيه منه في الانتخابات على أساس اللائحة، إذ أنّ الناخبين قليلًا ما يعرفون مرشّحي اللائحة عن كثب. فالمرشح المنفرد يستمدّ قوّته الانتخابية من اتصال الناخبين بشخصه، فيصبح أقل تأثرًا بجماعات الضغط، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم غير ذلك. لا بل يمكن لهذا المرشّح أن يجيّر قوته لأحد الأحزاب المتنافسة.
وفي هذا الإطار، هناك رأي خاص للعلاّمة الدكتور إدمون ربّاط، يعتبر فيه أنّ الانتخاب الأكثري المنفرد، أي الدائرة المخصّصة بمقعد واحد، يتميّز بأنّه يحول دون توزيع المقاعد توزيعًا طائفيًا كما هو جارٍ في لبنان، حيث أنّ الدائرة المنفردة تمكّن أي مواطن من ترشيح نفسه مهما كانت طائفته ومذهبه، حتى إذا ما فاز، يكون قد برهن الناخبون بأكثريتهم على أنّهم اختاروه لثقتهم به، بصرف النظر عن دينه. ويرى الدكتور ربّاط في ذلك، طريقة قد تبدو ناجحة لإزالة الطائفية السياسية في لبنان
على الرغم من فوائد الدائرة الفردية والنظام الأكثري وحسناتهما، إلاّ أنّ سلبيات عديدة تضاف إلى تلك التي أشرنا إليها أعلاه، ولاسيما أنّهما لا يعطيان صورة صحيحة عن الأكثرية والأقلية. وأبرز هذه السلبيات، أنّه لا يمكن العمل بهما بصورة صحيحة لتحقيق الأهداف المتوخّاة إلاّ في مجتمعات مستقرّة ومتجانسة من الناحيتين الاجتماعية والنفسية، وتحترم المبادئ والقواعد الديمقراطية في التنافس الانتخابي، ولا سيّما استخدام الوسائل الشرعية والقانونية لكسب أصوات الناخبين. فكثيرًا ما يحدث تلاعب في حجم الدوائر الفردية وتقسيمها بصورة غير عادلة، ما يسمح بإيجاد أكثريات مؤيّدة لمرشّحي الحكومة أو جهات معيّنة
ثانيًا – نظام الانتخاب النسبي
تعود أصول نظام الانتخاب النسبي إلى بداية القرن التاسع عشر مع انتشار الفكر الليبرالي في أوروبا، حيث أخذ المفكّرون السياسيون بالتصدي للمسائل الاجتماعية والسياسية على ضوء أفكار التنوير الجديدة التي تدعو إلى تعزيز الحريات العامة ومنح المواطنين المزيد من الحقوق المدنية والسياسية. وإذا كانت المساواة بين المواطنين هي واحدة من المبادئ الأساسية التي طبعت ذلك العصر بوحي من مبادئ الثورة الفرنسية، فكان لا بد لها من أن تتكرّس في النظم الانتخابية، كأداة لاستدراك التمييز القائم في المجتمع، سواء بين الأفراد أو بين المجموعات. لذلك يعتبر أنّه جرى ابتكار هذا النظام أساسًا بهدف المساهمة في حماية الأقليات وضمان تمثيلها ومشاركتها في الحياة العامة. وكانت البداية مع المفكّر الفرنسي الطوباوي-الاشتراكي فيكتور كونسيديران (Victor Considerant 1808-1893) العام 1842 الذي يعتبر مبتكر النسبية. ودخلت فكرة النسبية حيّز التنفيذ العام 1855 بتضمينها في الدستور الدانماركي، وتطبيقها في عدة كانتونات سويسرية العام 1890 وأوّلها كانتون «Ticino»، وفي بلجيكا العام 1895، والسويد العام 1907، ليصل اعتمادها اليوم في أكثر من تسعين دولة، إضافة إلى اعتمادها العام 1999 صيغة لانتخاب البرلمان الأوروبي
إذا كان يشوب نظام الانتخاب الأكثري علّة عدم تمثيله العادل والصحيح لمجموع الناخبين، وتاليًا لمختلف مكوّنات المجتمع، فإنّ الهدف الأساس لنظام الانتخاب النسبي هو التمثيل الصادق والدقيق للأقليات الناخبة، وذلك بالاستناد إلى نسبة الأصوات التي تحصّلها كل أقلية. هذا يقود إلى نتيجة مباشرة، هي ضرورة إجراء الانتخاب النسبي على أساس اللوائح الانتخابية، حيث يكون بالإمكان توزيع المقاعد المخصّصة للدائرة الانتخابية بين أكثرية وأقلية تضمّهما اللوائح المتنافسة، وفق ما تجمعه كل لائحة من أصوات الناخبين. واللوائح تؤدّي، حسب هذا الواقع، إلى ضرورة وجود أحزاب سياسية تتمثّل بلوائح إنتخابية تضمّ مرشّحيها.
إنّ نظام الانتخاب النسبي يسمح للأقليات بحماية حقوقها، وبأن تتمثّل بعدد من النواب يناسب حجمها العددي، وبالتالي يؤمّن مشاركتها في تمثيل الأمة التي هي جزء منها. وعليه يصبح هذا النظام معبّرًا عن واقع المجتمع، وعن اتجاهات الرأي العام، وذلك على عكس نظام الانتخاب الأكثري، الذي يصادر أصوات الأقليات ويحرمها التمثيل، ويمنح المقاعد المخصّصة للدائرة الانتخابية إلى اللائحة التي تحصل على الأكثرية البسيطة من أصوات المقترعين.
والنظام النسبي، على ما يظهر في تطبيقه، يساهم بتعدّد الأحزاب، وتاليًا في صعوبة تأمين أكثرية نيابية من حزب واحد، ما يؤدّي إلى قيام تحالفات بين أكثر من حزب لتأمين الأكثرية النيابية اللازمة لتولي الحكم، ما قد يؤمّن مشاركة أوسع في السلطة.
كيف يطبّق النظام النسبي؟
على الرغم من السهولة الظاهرة في إمكان معرفة الحصص (من عدد المقاعد) التي تنالها اللوائح (أو الأحزاب)، وفق النسبة التي حصّلتها كل لائحة من مجموع أصوات المقترعين، إلاّ أنّ التطبيق يظهر الحاجة إلى إيجاد قاسم مشترك لتوزيع المقاعد النيابية بين اللوائح المتنافسة.
يتم توزيع المقاعد النيابية وفق طريقتين رئيستين: الأولى هي طريقة الحاصل الانتخابي (أو المعدل الانتخابي/أو مخرج القسمة الانتخابي)، والثانية هي طريقة الحاصل الانتخابي المحدّد سلفًا، مع أرجحية استعمال الطريقة الأولى.
يتفرّع عن هاتين الطريقتين مشكلتان عمليتان هما: كيفيّة توزيع الأصوات المتبقية، وكيفيّة اختيار المرشحين الفائزين ضمن اللائحة.
1- طريقة الحاصل الانتخابي (أو المعدّل الانتخابي/أو مخرج القسمة الانتخابي)
تقضي هذه الطريقة بقسمة عدد أصوات المقترعين في الدائرة الانتخابية على عدد المقاعد النيابية المخصّصة لها، فنحصل عندها على الحاصل الانتخابي، الذي سيستعمل لتحديد عدد المقاعد التي ستنالها كل لائحة مشاركة في الاقتراع.
ولنأخذ مثلاً يفترض أنّ عدد الأصوات المقترعة، في دائرة إنتخابية معيّنة، بلغ 125000 صوت، وأنّ عدد المقاعد المخصصة لهذه الدائرة هو خمسة مقاعد، فيكون الحاصل الانتخابي: 125000 / 5 = 25000. وهكذا تنال كل لائحة عددًا من المقاعد يساوي عدد المرات التي يتكرّر فيها الحاصل الانتخابي.
ولنتابع المثل أعلاه، فنفترض أنّ ثلاث لوائح تتنافس على المقاعد الخمسة، وأنّ اللائحة الأولى حصلت على 60000 صوت، واللائحة الثانية على 46000 صوت، واللائحة الثالثة على 19000 صوت، فيصبح توزيع المقاعد عل الشكل التالي:
اللائحة الأولى: 60000 /25000 = 2 مقعدان والباقي 10000 صوت
اللائحة الثانية: 46000 /25000 = 1 مقعد واحد والباقي 21000 صوت
اللائحة الثالثة: 19000 /25000 = صفر مقعد والباقي 19000 صوت.
2- طريقة الحاصل الانتخابي المحدد سلفًا (أو الثابت/أو المتساوي)
تقضي هذه الطريقة بالتحديد المسبق للحاصل الانتخابي، أي أن يحدّد القانون مسبقًا عدد الأصوات التي يجب أن ينالها المرشّح ليصار إلى انتخابه، وهو العدد نفسه للجميع.
والقانون، في تحديده عدد الأصوات اللازم لانتخاب المرشّح (أي الحاصل الانتخابي)، يأخذ بعين الاعتبار عدد جميع الناخبين في الدولة، وعدد المقاعد التي يتألّف منها المجلس النيابي. ووفق هذه الطريقة، ينال الحزب أو اللائحة عددًا من المقاعد يساوي المرات التي يتكرّر فيها الحاصل الانتخابي المحدّد سلفًا، سواءً في الدائرة أو في مجموع الدوائر الانتخابية في الدولة.
كما سبق وأشرنا، فإنّ مشكلتين مهمتين في نظام الانتخاب النسبي تحتاجان إلى الحل، وهما: كيفية إدارة الأصوات المتبقية، حيث ثمة أصوات بقيت من دون استعمال في التوزيع الأوّلي للمقاعد على اللوائح، كونها أقلّ من الحاصل الانتخابي، والمشكلة الثانية، هي كيفية توزيع المقاعد ضمن اللائحة عندما تفوز ببعض المقاعد المخصّصة للدائرة وليست كلها. سوف نتعرّف في ما يأتي الحلول التي اعتمدت لحلّ هاتين المشكلتين.
3- أساليب توزيع الأصوات المتبقية
توصّل الاختصاصيون إلى ثلاثة أساليب هي الآتية: «أسلوب البقايا الكبرى» المعروف بالأسلوب السويسري، «أسلوب المعدّل الأكبر»، و«أسلوب دهوندت» D’Hondt أو القاسم الانتخابي. وهذان الأخيران يوصلان إلى النتيجة نفسها التي تختلف عن الأسلوب الأول. وهذه تفاصيلها:
أسلوب توزيع البقايا الكبرى
حسب هذا الأسلوب، تعطى المقاعد الشاغرة إلى اللوائح التي تملك أكبر عدد من الأصوات المتبقية الأقرب إلى الحاصل الانتخابي.
وفي المثل أعلاه، استحقّت اللائحة الأولى مقعدين وبقي لها 10000 صوت غير مستعمل، واللائحة الثانية مقعدًا واحدًا وبقي لها 21000 صوت، والثالثة بقي لها 19000 صوت من دون أن تنال أي مقعد. إذًا استُحقّت ثلاثة مقاعد وبقي مقعدان شاغران. ووفق أسلوب البقايا الكبرى، يعود المقعدان الشاغران للائحة الثانية والثالثة كونهما يملكان البقايا الأكبر والأقرب إلى الحاصل الانتخابي. فيصبح التوزيع النهائي: مقعدان للائحة الأولى، مقعدان للثانية، ومقعد واحد للثالثة.
أسلوب المعدل الأكبر
توزّع المقاعد الشاغرة الباقية على اللوائح التي تملك المعدّل الأكبر والأقرب إلى الحاصل الانتخابي.
كيف يتم ذلك؟ لمعرفة المعدّل لكل لائحة، يضاف مقعد افتراضي إلى المقاعد الحقيقية التي نالتها كل لائحة، ثم يقسم عدد الأصوات التي حصّلتها على عدد المقاعد الجديدة (أي الحقيقي + الإفتراضي) فنحصل على المعدّل الجديد الذي يجب مقارنته بالحاصل الانتخابي. فوفق المثال السابق:
اللائحة الأولى: 60000/(2+1) (مقعدان حقيقيان+ مقعد إفتراضي)=20000 لكل مقعد
اللائحة الثانية: 46000/(1+1)= 23000 لكل مقعد
اللائحة الثالثة: 19000/(0+1)=19000 لكل مقعد
وهكذا يعطى المقعدان الرابع والخامس الشاغران للائحة الثانية والأولى كونهما يملكان أكبر المعدّلات.
هذا الأسلوب، على عكس الأسلوب الأوّل، يعزّز دور الأحزاب الكبرى على حساب الأحزاب الصغرى.
أسلوب دهوندت D’Hondt [15]
يعتمد هذا الأسلوب إجراء عملية حسابية وحيدة توصل إلى النتيجة المبتغاة، عبر استخراج القاسم المشترك على النحو الآتي: يقسّم مجموع أصوات كل لائحة وبالتتابع على الأرقام 1-2-3-4-5… الخ، حتى الوصول إلى الرقم المطابق لعدد اللوائح المتنافسة (وهي ثلاث في المثال الذي اعتمدناه). ثم ترتّب المعدّلات الحاصلة بنتيجة القسمة إبتداءً من الأكبر فالأصغر حتى الوصول إلى المعدّل الموازي لعدد المقاعد المحدّدة الذي يسمى القاسم المشترك common denominator. ثم توزّع المقاعد على اللوائح بمقدار تكرار القاسم المشترك لدى كل لائحة.
لتوضيح هذا الأسلوب وفق المثال أعلاه، تقسّم أصوات كل لائحة على الأعداد 1-2-3 (الموازي لعدد اللوائح)، فنحصل على التالي:
اللائحة/ أصواتها
المجموع/1
المجموع/2
المجموع/3
الأولى/60000
60000
30000
20000
الثانية/46000
46000
23000
15000
الثالثة/19000
19000
9500
6333
ترتّب الحواصل من الأعلى إلى الأدنى: 60000، 46000، 30000، 23000، 20000 فنصل إلى الحاصل الخامس المقابل لعدد المقاعد، وهو 20000، الذي يعتمد كقاسم مشترك، فيصبح التوزيع النهائي كالآتي:
اللائحة الأولى: 60000/20000=3 مقاعد
اللائحة الثانية: 46000/20000=2 مقعدان والباقي 6000 صوت
اللائحة الثالثة: 19000/20000= صفر مقعد والباقي 19000 صوت
أي أنّ النتيجة جاءت مشابهة للأسلوب الثاني المشار إليه أعلاه.
هذا بالنسبة إلى مشكلة البقايا. أما مشكلة إختيار المرشّحين الفائزين من اللائحة، فإليكم:
4- كيفية اختيار المرشحين الفائزين ضمن اللائحة
تعتبر هذه المسألة من المسائل المعقّدة في نظام الانتخاب النسبي، إذ أنّ حلّها ينطوي على تقييد لإرادة الناخب.
هناك أسلوبان معتمدان لحل هذه المسألة وهما: أسلوب اللوائح المجمّدة Listes Bloquées، وأسلوب اللوائح المتنافسة مع التصويت التفضيلي vote préférentiel (أو المضاعف).
أسلوب اللوائح المجمّدة
في هذا الأسلوب، لا يمكن للناخب إلاّ التصويت لإحدى اللوائح المتنافسة كاملة، من دون شطب أي إسم أو تبديله بسواه، ومن دون تغيير في ترتيب الأسماء الواردة في اللائحة.
هذا الأسلوب بسيط مبدئيًا، إذ ليس على الناخب سوى اختيار إحدى اللوائح المتنافسة، والاختيار بالتالي (من الناحية النظرية) يكون بين البرامج المعروضة على التصويت.
وبهذا الأسلوب، ينال جميع المرشحين في كل لائحة عددًا متساويًا من الأصوات، وهو العدد الذي نالته اللائحة. فلمعرفة الفائزين من مرشحي اللائحة، وفق الحصة النسبية التي نالتها، يكون حسب ترتيب الأسماء في هذه اللائحة، إبتداءً من الإسم الأول إلى الإسم الموازي للرقم الذي يمثّل حصة اللائحة.
أسلوب اللوائح المتنافسة مع التصويت التفضيلي
وفق هذا الأسلوب، يجري الانتخاب على أساس لوائح يعلن عنها مسبقًا، ولا يجوز للمرشح أن يظهر إسمه إلاّ على لائحة واحدة، وعليه لا يستطيع الناخب أن يدوّن في ورقة تصويته أسماء مرشحين يختارهم من لوائح مختلفة. إلاّ أنّه يحقّ للناخب أن يعيّن من اللائحة مرشحًا أو أكثر (حسب ما يحدّد سلفًا) لكي يذهب إليهم صوته. فيكون الناخب قد صوّت للائحة وفضّل واحدًا أو أكثر من بين أعضائها. وبذلك لا ينال المرشحون في اللائحة الواحدة العدد نفسه من الأصوات. ولا يفوز بالانتخاب بقدر المقاعد المخصّصة للائحة سوى من يكون قد نال منهم العدد الأكبر من الأصوات.
مقارنة النظامين الأكثري والنسبي
لا شك أنّ في كلا النظامين من الحسنات والسيئات ما يفرض إجراء فحص دقيق لمدى استجابة كل منهما للمعايير الديمقراطية للعملية الانتخابية، واستدراك مدى توصّل الانتخابات عبر هذين النظامين إلى تحقيق الأهداف التي تتوخاها، ولا سيّما صحّة تمثيل الناخبين وفعالية المؤسسات الدستورية الناتجة عنها.
في ما يتعلّق بصحة التمثيل، لا يرقى أدنى شك إلى حقيقة تميّز النظام النسبي في كونه النظام الأمثل، الذي من خلاله تتمكّن مختلف التيارات السياسية والاجتماعية من أن تنال المقاعد النيابية الموازية لقوّتها الانتخابية، ما يضمن حقوق الأقليات والأحزاب الصغرى في المشاركة في قرارات المؤسسات الدستورية. مقابل ذلك، لا يعطي النظام الأكثري صورة صادقة عن صحة التمثيل الشعبي.
أما في ما يتعلّق بفعالية المؤسسات التي تفرزها الانتخابات، فإنّ النظام النسبي يؤدّي إلى تعدّد الأحزاب وتكاثرها، ويتيح لها ممارسة الانضباط الصارم على الناخبين المؤيّدين لها، ما يجعل من الصعوبة وصول نواب لا ينتمون إلى أحد الأحزاب. هذه الأفضلية التي يوفّرها النظام النسبي للأحزاب، هي من دون شك على حساب حرية الناخب في الاختيار بين المرشحين. كما أنّ تكاثر الأحزاب يؤثّر على حسن سير المؤسسات الدستورية، وكذلك يجعل المجلس النيابي مقيّدًا بإرادة زعماء هذه الأحزاب، ما يضعف من دوره المفترض.
وبدلاً من أن تستند الحكومات إلى أكثرية نيابية متجانسة ومتراصة يوفّرها النظام الأكثري، نراها تعتمد على أكثرية قائمة على تحالفات ركيكة ينعدم فيها الانسجام، ويسهل تفكّكها عند كل هزّة سياسية، ما يفقد البرلمان فعاليته.
في مقابل ذلك، وعلى الرغم من الشكوك التي تواكب النظام الأكثري لجهة صحة التمثيل، ولا سيما في الدائرة الفردية، فإنّ هذا النظام يوجِدُ في المجالس النيابية أكثرية متناسقة، ويساهم في تكوين ثنائية حزبية تتسلّم السلطات الدستورية وتؤمّن لها الاستقرار اللازم.
ثالثًا- نظام الانتخاب المختلط
استعمل هذا النظام بهدف الاستفادة من حسنات النظامين الأسبقين، والتقليل من المساوئ التي قد يتركها استخدام أحدهما بمفرده. ومن أبرز الدول التي تعتمده اليوم: ألمانيا، اليابان، إيطاليا، المكسيك، كوريا، نيوزيلندا، السنغال، معظم الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى (مثل روسيا وأوكرانيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وكازاخستان وغيرها) وفي الدول الناشئة (مثل السلطة الوطنية الفلسطينية).
يعتمد النظام المختلط على دمج نظامي الانتخاب الأكثري والنسبي في عملية إنتخابية واحدة، فيتمّ انتخاب عدد من النواب وفق النظام الأكثري، وعدد آخر وفق النظام النسبي. ويختلف تطبيق هذا النظام بين دولة وأخرى. إلاّ أنّه في الغالب، يجري انتخاب نصف النواب في دوائر فردية بالأكثري، والنصف الآخر في دوائر كبيرة وفق النظام النسبي، كما يجري في ألمانيا مثلاً.
يعتمد النظام المختلط التقنيات نفسها التي يعتمدها النظام النسبي في حلّ المسائل المتعلّقة بتوزيع الحصص النيابية، ولا سيما في كيفية إدارة الأصوات المتبقية وكيفية احتساب الفائزين ضمن اللائحة الواحدة. كذلك يعتمد التصويت الأكثري في الدوائر الفردية وعلى دورة واحدة أو دورتين. كما يلجأ بعض الدول، التي تعتمد هذا النظام، إلى وضع بعض القيود على الأحزاب، لتصبح مؤهّلة للاشتراك بالاقتراع النسبي في الدوائر الكبرى. فتفرض حصول الأحزاب على نسبة مئوية محدّدة (5 % في ألمانيا) من مجموع أصوات الناخبين المقترعين في الدولة كلها، أو الحصول على عددٍ محدّد من المقاعد في الاقتراع الأكثري
لا شك أنّ هذا النظام يجمع حسنات النظامين الأسبقين. إذ يؤمّن النظام النسبي عدالة في التمثيل لمختلف القوى والأحزاب، فتتمتّع الأقليات بتمثيل يوازي حجمها العددي، وتأخذ حصّتها النيابية، وتشارك في صنع قرارات المؤسسات الدستورية في البلاد. ثم إنّ القيود التي تفرضها أنظمة بعض الدول على المشاركة في الانتخاب النسبي، لجهة توافر حجم شعبي معقول لدى الاحزاب المشاركة، ما يمنع تشتّت المجالس التشريعية بين أقليات نيابية تمنعها من الاضطلاع بدورها، وتمنع بالتالي من توفير حكم مستقر. يساعدها في ذلك النظام الأكثري الذي يعتمد لانتخاب نصف النواب بتأمين استقطاب الناخبين وتمحور القوى السياسية حول تيارين أو ثلاثة، ما يؤدّي إلى قيام حكم فعّال ومستقر.
يحتاج النظام المختلط إلى الكثير من الدراية في أثناء اعتماده، مخافة تصادم سلبيات النظامين الأكثري والنسبي، كونهما مختلفين كليًا في الأهداف والوسائل.
قد يكون هذا النظام من الأنظمة التي تستجيب لواقع الدول ذات النسيج والتركيب المتعدّد، مع الحفاظ على بيئة مستقرّة للحكم تسمح بتقدّم البلاد وتطوّرها. النموذج الأقرب في هذا الإطار هو المشروع الذي تقدّمت به «الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية» التي كان يرأسها الوزير والنائب السابق فؤاد بطرس[
2)من المتصرفية الى مرحلة ما بعد الاستقلال:
الانتخابات النيابية هي حدث سياسي بالدرجة الأولى، وظيفتها التمثيل والتغيير لا في النخب السياسية فحسب بل ايضا في السياسة العامة في البلاد وفي النهج السياسي للحكم في اطار التنافس الحر بين الحكم والمعارضة
لقد اعتمد لبنان منذ نشأته نظام الانتخاب الأكثري، الذي يُعطي الفائز بالأغلبية المُطلقة الحق بالمقعد النيابي بمجرّد فوزه بهذه الأغلبية، حتى لو بفارِق صوتٍ واحدٍ، ويُقصي في الوقت نفسه المرشّح الحاصِل على 49.9% من الأصوات، والذي كان يُعتبر جائراً في الحال اللبنانية القائمة على التوافق، وعلى التنوّع الكثيف في التركيبتين الاجتماعية والسياسية.
وشهد لبنان عدداً من قوانين الانتخاب الأكثرية منذ ستينات القرن الماضي، أكثرها شهرة ما عُرِف اصطلاحاً بـ”قانون الستين” بالإشارة إلى اعتماده لأول مرة عام 1960 وقد أُعيد اعتماد هذا القانون مُعدّلاً في انتخابات عام 2009
ومع وجود تطابُق بين كل القوانين السابقة بخصوص طريقة احتساب الأصوات وفرزها، نظراً لوحدة النظام الانتخابي، كانت الفوارق تتمثّل بحجم الدوائر وطريقة تقسيمها، وتوزيع المقاعد النيابية عليها، على أسُس مختلفة.
لكن القانون الانتخابي الأخير الصادر في صيف 2017، والذي جرت على أساسه الانتخابات في 6 أيار، اختلف عن سابقيه بصورةٍ واضحةبانتقاله من النظام الأكثري الى النظام النسبي ولكن على أساس “الصوت التفضيلي”.
لقد تعددت اشكال قانون الانتخاب منذ الاستقلال حتى اليوم، ففي الانتخابات التي جرت باشراف الانتداب الفرنسي عام 1943 كانت وفق نظام الاكثري ووفق دوائر تقوم على المحافظات الخمس «بيروت،جبل لبنان، لبنان الشمالي، لبنان الجنوبي، والبقاع «،وكان عدد النواب 55 نائبا، وفي عهد هذا المجلس تم انتزاع استقلال لبنان.
ووفق نفس القانون تمت انتخابات ايار عام 1947 ، وفي عهد هذا المجلس تم التجديد للرئيس بشارة الخوري، الذي انتج في العام 1951 قانونا جديدا للانتخاب رفع بموجبه عدد اعضاء المجلس الى 77نائبا، واعتمدت محافظات: بيروت، لبنان الجنوبي، والبقاع على اساس كل محافظة دائر ة انتخابية، وتم تقسيم جبل لبنان الى ثلاث دوائر انتخابية هي: بعبدا- المتن، الشوف- عاليه، وكسروان- جبيل.
كما تم تقسيم محافظة لبنان الشمالي ايضا الى ثلاث دوائر انتخابية هي: طرابلس، عكار، وزغرتا-البترون-الكورة.
في عهد الرئيس كميل شمعون (1952- 1958 )،اعتمد قانون انتخاب جديدا، فخفض عدد النواب الى 44 نائبا واعتمد الدائرة الفردية فقسم بيروت الى خمس دوائر، جبل لبنانة:9 دوائر، لبنان الشمالي: 8 دوائر، البقاع:4 دوائر، ولبنان الجنوبي:سبع دوائر.
في العام 1957 عُدّل هذا القانون، فجرت الانتخابات في شهر آب، بعد ان رفع عدد النواب الى 66 نائبا وجعل من بيروت دائرتين، جبل لبنان: ثمان دوائر، لبنان الجنوبي سبع دوائر، لبنان الشمالي: سبع دوائر، والبقاع 3 دوائر، اي جعل لبنان 27 دائرة.
في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958- 1964) تم اعتماد قانون انتخاب جديد عام 1960 هو في حقيقته طبعة منقحة عن قانون 1957، رفع بموجبه عدد اعضاء المجلس إلى 99 نائبا وقسم لبنان الى 26 دائرة انتخابية وعلى هذا القانون حصلت انتخابات 1964 وفي عهد الرئيس شارل حلو (1964-1970)، وكذلك الحال في عهد الرئيس سليمان فرنجية (1970-1976)الذي جرت في عهده انتخابات 1972، وتم في العام 1976 تمديد ولاية مجلس النواب بسبب اندلاع الحرب الاهلية بدءا من 13 نيسان 1975.
في عهدي الرئيسين الياس سركيس (1976- 1982 )وامين الجميل (1982- 1988 )لم تجر اي انتخابات نيابية، حيث كان يتم خلالها التمديد المتتالي للمجلس المنتخب عام 1976، حت وصل عدد النواب إلى 73 نائبا.
خلال مؤتمر الطائف، اتفق على رفع عدد النواب إلى 108 نواب اي بزيادة 9نواب مسلمين ليصبح عدد اعضاء المجلس النيابي 54 نائبا مسلما و54 نائبا مسيحيا.
في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي (1989- 1998)وابان حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي تم في العام 1991 تعيين 40 نائبا في المراكز النيابية الشاغرة كانوا موزعين على النحو الاتي:9نواب زيد عددهم الى الـ99 نائبا الذي كان يتالف منهم النواب.
28 نائبا كان قد شغر مركزهم بالوفاة، 3 نواب شغر مركزهم بسبب انتخابهم رؤساء جمهورية وهم:امين الجميل، رينه معوض، والياس الهراوي.
في العام 1992 قررت حكومة الرئيس رشيد الصلح إجراء انتخابات نيابية فأقر قانون رفع بموجبه عدد اعضاء المجلس النيابي إلى 128 نائبا وتقسيم جديد للدوائر تراوح بين المحافظة والقضاء فاعتمدت المحافظات في:بيروت، لبنان الجنوبي، ولبنان الشمالي، والاقضية (قانون 1960) في جبل لبنان والبقاع.
في العام 1996 اعتمدت المحافظات كدوائر انتخابية ما عدا جبل لبنان الذي اعتمدت فيه الاقضية.
في العام 2000 كان تقسيم جديد للدوائر اعتمد بعضها قانون 1960وبعضها خضع لتقسيمات جديدة فاعتمدت الاقضية في البقاع وفي كل من الشوف والمتن الشمالي
وجعلت كل من بعبدا- عالية، كسروان- جبيل دائرتين انتخابيتين،
وقسم الجنوب الى دائرتين وكذلك الشمال فيما جعلت بيروت 3دوائر وفق تقسيمات جديدة تختلفلاعن قانون 1960.
نفس القانون اعتمد في انتخابات 2005، لتكون في اتخابات 2009 عودة الى قانون 1960 مع اعتماد تقسنات انتخابية جديدة لبيروت.
إنتخابات عام 2018 :بداية اعتماد النسبية..
أ قرّت الحكومة اللبنانية يوم 14 يونيو/حزيران 2017 قانونا جديدا للانتخابات النيابية يعتمد النظام النسبي وتقسيم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، إلى جانب إقرار الصوت التفضيلي على أساس القضاء (الدائرة الإدارية)، واستخدام البطاقة الممغنطة.
واعتمد القانون الجديد الذي يحمل اسم “قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب” اللبناني النظام النسبي لأول مرة في تاريخ لبنان، ولكن ضمن صيغة “ملبننة” وفريدة، لا يوجد مثيل لها حول العالم. ففي حين دَرَجَت الأنظمة النسبية في العالم على اعتماد دوائر موسّعة، لحظ القانون الانتخابي اللبناني الجديد 15 دائرة انتخابية، في بلدٍ مساحته 10452 كلم مربع، وكثافته السكانية تقارب 5 ملايين فقط. وقد تم تقسيم الدوائر مع الأخذ بالاعتبار طبيعة التنوع السياسي والطائفي للمجتمع اللبناني بعد ان استبعد مشروع القانون الارثوذكسي الذي رفضته بعض القوى السياسية والذي يقوم على أساس أن ينتخب المسيحيون نوابهم، والمسلمون نوابهم في حين جرت تعديلات على القانون بحيث ضمّن القانون تنوّعاً طائفياً محدوداً في معظم الدوائر.
ويقوم القانون الجديد على القوائم الانتخابية، مع لحظ ضرورة ترشيح كل لائحة لمرشّحين في 40% من المقاعد في الدائرة الانتخابية الواحدة كحدٍ أدنى، مع توزيعهم على المذاهب التي توجد لها مقاعد في الدائرة. وأضاف القانون فكرة الصوت “الصوت التفضيلي” (وهو صوت ترتيبي) بحيث “يكون للمقترع الحق لصوت تفضيلي لمرشح في اللائحة المختارة، يكون حصرا من دائرته الصغرى”.وبذلك تكون آلية الفرز قد فرضت التنافُس ليس بين اللوائح فحسب، بل بين المرشّحين من اللائحة نفسها، الذين أصبحوا مُرغمين على جذب الأصوات لمصلحتهم ضمن اللائحة الواحدة. كما تم اعتماد ستة مقاعد في مجلس النواب “مخصصة لغير المقيمين تحدد بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين؛ تتم إضافتها إلى عدد مقاعد أعضاء مجلس النواب ليصبح 134عضوا، وذلك في الدورة الانتخابية التي سوف تلي الدورة الانتخابية الأولى التي ستجري بعد إقرار مشروع القانون”.
لقد حمل القانون الجديد للانتخابات بعض الإيجابيات؛ وشكل اعتماد النسبية حدثا نهما ومميزا في تاريخ الانتخابات النيابية اللبنانية وبداية لاعتماد النسبية ابتي يمحت بفوز عدد من المرشحين الذين حال النظام الأكثري دون فوزهم في الدورات السابقة.
واذا كانت النسبية قد اوحت الى عدد كبير من المهتمين بالشأن العام بالترشح؛ ولأول مرة للانتخابات؛ آملين ان يكون لهم فرصة في الفوز؛ غير ان هذا القانون كان قد أقر مسبقا النتائج في بعض الدوائر؛ كما حدد جزئيا النتائج في دوائر اخرى تحسمها نهائيا طبيعة التحالفات بين القوى السياسية. لذلك كان هناك نحو 110 مقاعد معروفة نتائجها؛ ان لم تكن لمرشحين معينين فقد كلنت حكما محسومة لقوى سياسية معينة؛ واما المقاعد ال 18 الباقية فجرت المنافسة عليها بين القوى السياسية ذاتها. وسمحت نتائج هذه الانتخابات بإبراز الاحجام الحقيقية لها من خلال الصوت التفضيلي الواحد.
ومن المآخذ أيضا على هذا القانون انه لم يفتح المجال امام بروز قوى سياسية جديدة على الساحة الداخلية من خارج الاصطفافات المعروفة والسبب ان طبيعة هذا القانون تتطلب ماكينة فاعلة لديها اعلامية ومالية وهذا الأمر لا يمكن انجازه في اسهر معدودة. هذا فضلا عن الدور الكبير الذي لعبه عنصر المال وتأثيره على نتائج الانتخابات؛ فقد اوجد القانون الجديد مبررات لزيادة الإنفاق الانتخابي اذ ارتفع سقف الانفاق في بعض الدوائر الى حوالي 1.7 مليون دولار لكل مرشح حسب تقرير “الدولية للمعلومات” ؛ فيما اعتبرت بعض النفقات الانتخابية مشروعة كاستقدام الناخبين من الخارج واعتبار” التوزيع الدوري والمعتاد للمساعدات” من قبل المرشح خارج النفقات الانتخابية.
ان النتائج التي افرزتها الانتخابات الحالية هي مهمة واساسية من اجل استخلاص العبر حول ايجابيات وسلبيات هذا القانون وما اذا كان سيتم الابقاء على هذا القانون في الانتخابات القادمة المفترضة في العام 2022 او اذا تم اعتماد قانون جديد خاصة وأن التحدي هو في اصلاح قانون الانتخاب وذلك لتحقيق بناء الدولة المدنية.
4) النسبية هي الحل..
يهدف النظام النسبي الى تمثيل كلّ حزب أو مجموعة سياسية بعدد مقاعد يوازي قوتها الانتخابية. اما فكرة التمثيل النسبي ، فقد ولدت في أوروبا بهدف حماية الأقليات. واعتمدت أولاً في دول تتميز بتنوع ديني أو عرقي أو لغوي مثل الدانمارك وسويسرا وبلجيكا وفنلنده.
وقد وردت هذه الفكرة لدى ارسطو وكوندورسي، وبشكل عام عند كل مفكري التيار الليبيرالي الذين يدعون الى وجوب أن يكون الجسم التمثيلي صورة مصغّرة (طبق الاصل ) عن الجسم الاجتماعي الممثّل. وبدأت المطالبة بتمثيل الأقليات، ثم بالتمثيل العادل فبالتمثيل النسبي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وفي العام 1842 ميّز المفكر السويسري فيكتور كوسيديران، بين مبدأ الأكثرية الذي يجب أن يكون أساسًا لحق القرار، ومبدأ النسبية الذي يجب أن يكون أساسًا لحق التمثيل: “حق الأكثرية في القرار يفترض النسبية في التمثيل”.
لكن لم تطبق هذه الطريقة إلا في النصف الثاني من ذلك القرن مع وزير المال الدانماركي اندرو كير الذي ادخل هذه الصيغة في الدستور عام 1855.
ويتميز النظام النسبي بمجموعة من الخصائص العامة التي نوردها على سبيل المثال لا الحصر:
تحقيق العدالة في التمثيل من خلال برلمان تتمثل فيه القوى السياسية كافة. وقد حققت هذه الصيغة رقمًا قياسيًا في بولندا عام 1991. حيث شارك في الانتخابات 65 حزبًا وفاز 29 منها بمقاعد لكن من دون أن ينال اي منها أكثر من 12,3% من المقاعد .
تغليب الطابع التنافسي بين المبادىء السياسية والبرامج بعيدا عن الاعتبارات والمصالح المحلية.
الاستمرارية في تطبيق السياسات، إذ أنه غالبًا ما يعود حزب أو أكثر للمشاركة في البرلمان بعد الانتخابات الجديدة. بينما في حكومات الحزب الواحد يمكن أن يحصل تغيير جذري بفعل نتائج الانتخابات والتغيير الحكومي.
على ضوء كل ذلك فإن الآلية المقترحة من قبلنا لتطبيق نظام الإقتراع النسبي انما تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الواقع اللبناني لجهة تنوعه المذهبي والمناطقي ،والتأسيس لمجتمع مدني يتولد عنه تكتلات سياسية وطنية ،تتنافس ديمقراطيا فيما بينها، دون ان يؤدي تنافسها للتنافر ،وزرع معضلات تتفشى وتغدو قنابل موقوتة مرشحة للإنفجار عند اول اختبار حقيقي كما تعودنا .
في الترشح والإقتراع : يجري الترشح على أساس اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة ، على ان يجري اعتماد عدد معين من المرشحين من كل قضاء داخل اللائحة الواحدة .
( إذا كان اعتماد لبنان دائرة واحدة يثير حساسية سياسية او غير سياسية لطرف او اكثر من الاطراف فلا ضير في اعتماد المحافظة دائرة انتخابية ، وهذا لا يمنع من اعتماد النسبية في المحافظة كتمهيد وتحضير لإعتماد خيار لبنان دائرة انتخابية واحدة ) بموجب نظام التمثيل النسبي المطلوب اعتماده في انتخابات مجلس النواب ، تنال كل لائحة من اللوائح المتنافسة نسبة مئوية من المقاعد مساوية للنسبة المئوية التي تنالها من مجمل الاصوات التي نالتها على مستوىالدائرة الانتخابية الكبرى .
مثلاً : اذا كان مجموع الاصوات في الدائرة الكبرى مليون صوت ونالت لائحة مئة الف صوت اي عشرة بالمائة من مجمل اصوات المقترعين ، فان ذلك يؤهلها للفوز بعشرة بالمائة من مجمل مقاعد الدائرة الكبرى مع تدوير الكسور العليا على ان يكون نصاب الابعاد 10% ( نصاب الابعاد في المانيا هو 5%) .
(*) نصاب الابعاد هو الحد الادنى من مجمل عدد الاصوات التي يقتضي ان تنالها اللوائح المتنافسة كي يحق لها التمثل في البرلمان ، اي كي يحق لها المشاركة في توزيع المقاعد علىاللوائح المتنافسة وفق النسبة المئوية التي تنالها من مجموع اصوات المقترعين .
فاللائحة التي لا تنال هذا النصاب ، لا تنال اي مقعد.
فكل لائحة لا تحصل على نصاب الابعاد المحدد من مجمل أصوات الدائرة الكبرى ، تفقد –أي اللائحة- إمكانية التمثل بأي مقعد، وتعتبر الأصوات التي حصلت عليها كانها لم تكن.
وتعطى مقاعدها الى اللوائح المتجاوزة لهذا النصاب. ويكون الترشّح على أساس لائحة مقفلة( اي لا يحق للناخب في اللوائح المقفلة إضافة إسم مرشح من خارج اللائحة التي اختارها). وعلى الناخب ان يفاضل بين المرشحين على اللائحة المقفلة التي يختارها، ولكن حق المفاضلة يكون مقيداً بخمسة اصوات فقط، وهي أصوات ” ترجيحية ” موزعة على طائفتين إسلاميتين وطائفتين مسيحيتين وصوت آخر غيرمحدد، يمنحه- اي الناخب-لأي مرشح بمعزل عن الطائفة التي ينتمي اليها، مما يمنع الناخب ان يقترع لمرشح طائفته فقط، و يشجع المرشح على تبني خطاب سياسي وطني ويرتقي بالمستوى العام للآداء السياسي في لبنان
آلية الفرز النهائي:
عملية الفرز هي احتساب المقاعد المستحقة لكل لائحة، وتحديد الفائزين من كل واحدة منها، وتتطلب عملية الفرز اعتماد الخطوات التالية:
أ –قسمة إجمالي أصوات المقترعين على عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابيـــة بغية الحصول على معدل الأصوات للمقعد الواحد ( اي الحاصل الانتخابي ).
ب – قسمـة مجمـل عدد الاصوات لكل لائحة على حدة، على الحاصل الانتخابي ليصار الى تحديد نصيب اللائحة من مجمل المقاعد ( مع تدوير الكسور العليا) مثال تطبيقي: محافظة بيروت:
مخصص لمحافظة بيروت تسعة عشر مقعدا ، ومجمل الذين إقترعوا في المحافظة بلغ مئة وواحد وتلاثين الف مقتـــرع ، للحصـــول على معــدل اصوات المقعد الواحد ( الحاصل الإنتخابي )، نقوم بالعملية الحسابية التالية: 131000 ÷ 19 = 6894 (الحاصل الإنتخابي)
آلية تحديد عدد المقاعد المستحقة لكل لائحة: اللائحة مجمل اصواتها الحاصل الإنتخابي عدد المقاعد المسحقة لكل لائحة
“أ” 52700 ÷ 6894 = 8
“ب” 48300 ÷ 6894 = 7
“ج” 30000 ÷ 6894 = 4
آلية توزيع المقاعد على المرشحين المتفوقين (الأوائل) في اللوائح: تتم عملية المقارنة بين الاصوات التي نالها كل مرشح من مختلف اللوائح بحسب مقاعد الطائفة والقضاء اللذين ترشح عنهما لتحديد المتفوقين منهم (الاوائل ) وبعد جمع اصوات كل مرشح، يتم ترتيب المرشحين المتفوقين في كل لائحة ،على حدة وفق تسلسل عدد الاصوات التي نالها المرشحون المتفوقون من الاعلى الى الادنى، (ويحتسب التفوق على أساس المقاعد الطائفية والمناطقية التي ترشحوا عنها، كما هو معمول به في النظام الأكثري) .
تنطلق عملية توزيع المقاعد بدءاً باللائحة الاقوى اي التي قد يزيد عدد متفوقيها عن نصيبها المحدد من المقاعد ويتم منح المقاعد للمتفوقين ( الاوائل ) من اللائحة بدءاً من الاعلى الى الادنى وفق تراتب الاصوات حتى تستوفي اللائحة مقاعدها المحددة.
أما اللائحة التي يتبيَّن ان عدد متفوقيها أقل من نصيبها المستحق من جرَّاء عملية الفرز التي حصلت، فتمنح تلقائياً المقعد ( اوالمقاعد ) المتبقية
خاتمة:
على الرغم من أهمية الإعتراضات على درجة النسبية المعتمدة في القانون الجديد لكن يجدر التوقف قليلاً عند النظام الأكثريّ المعمول به سابقاً لإدراك أهمية تجاوزه. فالنظام الأكثري الملغى كان نظاماً متعدد المقاعد، تجري الإنتخابات بموجبه على دورة واحدة بحيث يفوز المرشحون الحائزون على أعلى نسبة من الأصوات، حتى ولو لم تتوفر لديهم الأكثرية المطلقة. وما فاقم هذا النظام سوءاً هو تحويل الدوائر إلى دوائر نفوذ للزعماء، على نحو مكّن هؤلاء من حصد جميع مقاعد الدوائر التابعة لنفوذهم وحوّل في غالب الأحيان العملية الإنتخابية إلى استعراض للمحادل. وقد أدّى هذا النّظام عملياً إلى نسف التنافسية الإنتخابية وشكّل دعامة كبيرة لنظام الزعماء، بما فيه من استقطاب داخل كل دائرة وتقاسم للدوائر الإنتخابية (وتاليا للسلطة) فيما بينهم.
وعليه، ومن دون التقليل من أهمية الإعتراضات على النظام النسبي المعتمد، يبقى أنه لا يجوز التقليل من أهمية الحدث المتمثل في تجاوز النظام الأكثري المذكور والذي يؤمل أن يشكّل منعطفاً أساسياً في تاريخ الدولة اللبنانية في حال عدم التراجع عن اعتماد مبدأ النسبية في الانتخابات والتي تسمح للقوى والتيارات السياسية أن تتمثل في البرلمان، وفق نسبة تأييدها لدى الناخبين، من دون أن تكون حائزة بالضرورة على تأييد غالبيتهم. وعليه، تشكل النسبية من حيث المبدأ وصفة لاحترام التعددية وتعزيزها ، وفي الوقت نفسه حائلا دون سواد الزبونية ومشاريع الهيمنة.
وفي ظل القانون الانتخابي الذي اقترحته مؤخرا كتلة التنمية والتحرير النيابية على اساس نظام الاقتراع النسبي وباعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة مع الغاء الصوت التفضيلي؛ لا بد من التأكيد على أن الانتخابات النيابية التي تشكل احدى ركائز الديمقراطية، ومناسبة وطنية تتكرّر كل أربع سنوات، هي أساسًا موعدا للتجدّد وبعث الآمال بمستقبلٍ أفضل تنزاح فيه الهموم عن صدور الناس، مع العلم بأن القانون الانتخابي وحده لا يكفي، بل هو يأتي ضمن استراتيجية كاملة تترافق مع ارساء مبدأ تعزيز استقلالية القضاء وتفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة و تطبيق اللامركزية الادارية واستحداث مجلس الشيوخ الذي يشكل صمام امان للنظام السياسي.