
مجلس الشيوخ كرافعة للتغيير المجتمعي _ د. هشام الأعور
الاصلاح السياسي
يعد مفهوم التغيير المجتمعي من المفاهيم الطارئة في النسيج السياسي اللبناني، حيث يقتصر هذا المفهوم على اهتمام العديد من المفكرين الإصلاحيين بمسألة التغيير السياسي، وعملية الإصلاح بكافة مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية محاولين صياغة افكار إصلاحية مناسبة للواقع العالم اللبناني والذي يتسم بالضعف والانهيار والاستبداد السياسي.
وإذا كان الهدف من التغيير المجتمعي ينصب حول تعديل وضع اجتماعي وسياسي متردي نحو وضع أفضل، إلا أنه يطرح التساؤل حول مدى أو حجم التغييرات المطلوبة من جهة، ومدى إيجابية نتائج التغيير من جهة أخرى. ويمكن القول أن الهدف من التغيير يكون على حسب الحراك داخل المجتمع والذي قد يكون أساسه اقتصادي أو سياسي أو أيديولوجي فكري، كما قد يكون سلمي أو عنفي نتيجة لتغييرات داخل الدولة نفسها أو تأثرا بعوامل خارجية أو محيطة أو على حسب التوازنات الإقليمية والدولية.
يطرح مفهوم التغيير في كل مرة على شاكلة شعارات سياسية يلجأ اليها من قبل بعض المتسلقين على السلطة وغالبا ما ترتبط بمفاهيم مثل التغيير والإصلاح السياسي والديمقراطية والعنف، ويمكن القول أن عددا من القوى والأحزاب السياسية تعيش منذ فترة طويلة مأزقا حقيقيا نتيجة عدم تمكنها من الوصول إلى حالة وفاق مجتمعي وطائفي وايديولوجي وطبعا سياسي، ولم تتمكن رغم كل هذه المبادئ والشعارات التي تأسست عليها في البداية من أن تحقق أهدافها لغاية اليوم، ولا زالت العديد من الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف تصارع من أجل فرض حكم القانون وتجاوز الخلافات الطائفية والمذهبية وأيضا المعارضات الشديدة في ظل وجود تخبط حول القبول بشرعية من يحكم أو تقبل النظام الديمقراطي وما أفرزته الصناديق في الانتخابات . كما صار الفساد السياسي من أبرز مشكلات وتحديات الحكم في الفترة الحالية، وما له من انعكاسات سلبية على المجتمع والدولة ، (فوضى، عدم استقرا، أزمات اقتصادية…). وهنا تطرح الإشكالية حول أزمة الدولة في لبنان بعد سنوات من إقرار وثيقة الوفاق الوطني، والأسباب التي قادتها للوصول إلى هذا الوضع المتردي، وأيضا حول مستقبل اتفاق الطائف في ظل الوضع السياسي الحالي.
تنوعت المداخل النظرية لدراسة التغيير المجتمعي ، فأغلب علماء السياسة والاجتماع يعتبرون أن التغيير السياسي والاجتماعي هو حتمية تاريخية، إلا أنهم تفاوتوا في تحديد أسباب وآليات التغيير السياسي، حيث نجد غرامشي يربط بين المداخل السوسيوثقافية والتغيير السياسي، في حين ذهب باريتو إلى أن التغيير مرتبط بطبيعة النخب السياسية، بينما رأى “بوتومور” أن التغيير السياسي مرتبط بتطور الأجيال أو اختفاء الأجيال القديمة وصعود أجيال جديدة.
من زاوية أخرى تحدث صاموئيل هنتنجتون عن ضرورة التدرج في التغيير السياسي وربط بين التغيير والاستقرار المؤسسي والتحديث السياسي. وفي نفس الوقت رأى وليم ميتشل ضرورة تحديد الأغراض أو المكونات التي يتناولها التغيير السياسي داخل النظام او النسق السياسي نفسه، وخاصة وأنه غالبا ما يصاحب التغيير على مستوى النظام السياسي تغييرا على مستوى القيم والمؤسسات وأيضا تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية.
ويُعرّف جابريال ألموند Gabriel A. Almond التغيير السياسي على أساس حصول نظام سياسي على قوة جديدة، قادرة على إحداث تغيرات مرتبطة بتلك القدرة على مستوى الثقافة والهيكل السياسي والمرتبطين بالنظام السياسي.وحسب الموسوعة السياسية فلقد شهدت الكتابات النظرية اتجاهين كبيرين في دراسة التغيير السياسي انطلاقا من التحديث السياسي:
الأول: الاتجاه الليبرالي: وينطلق من القيم الديمقراطية في المجتمع الليبرالي، إذ يرى أن الديمقراطية هي المسار الوحيد والنتيجة الطبيعية لعملية التحديث السياسي، كما شهدته الدول الأوروبية، بما يضمن اتساع مركزية السلطة الحكومية، والتمايز والتخصص للبنى والوظائف السياسية، والمشاركة الشعبية المتزايدة، والتي تستند إلى مبدأ العدالة في التمثيل والمساواة السياسية بوجه خاص.
الثاني: الاتجاه الماركسي: وينبع من الفلسفة الماركسية التي ترى أن الطريق الوحيد لعملية التحديث السياسي هو الصراع الطبقي الذي يؤدي إلى الثورة، ويؤكد الماركسيون على أنهم لا يسعون إلى التحديث السياسي والاقتصادي فحسب بل إلى تحديث طبيعة الإنسان وإيجاد دور قيادي له في عملية التغيير.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الإصلاح يتضمن شيئا عن اتجاه التغيير، كما يتضمن شيئا عن نطاقه ومعدله. وكما يقول هيرشمان Hirschman، الإصلاح هو تغيير “تكبح به سلطة مجموعات تتمتع بامتيازات، وفي المقابل تحسن حالة مجموعات محرومة من حيث الوضع الاقتصادي والمكانة الاجتماعية”. يعني الإصلاح إذن تغييرا في اتجاه مساواة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أكبر، وتوسيع نطاق المشاركة في المجتمع ونظام الحكم أما التغييرات المعتدلة في الاتجاه العكسي فمن الأفضل أن توصف بأنها “تعزيزات” أكثر منها إصلاحات.
إن مضمون الإصلاح يختلف عن مضمون التغيير السياسي. فهذا الأخير يمكن أن يحدث دون تحقيق إصلاحات، كما أن مفهوم الإصلاح السياسي يختلف من نظام إلى آخر ومن فترة زمنية إلى أخرى، حيث يمكن الحديث عن إصلاح القيادات، ويمكن الحديث عن إصلاح المؤسسات السياسية، كما يمكن الحديث عن إصلاح الثقافة السياسية في مجملها، وكان مفهوم الإصلاح السياسي ولا زال حاضرا بقوة واكتسب زخما إعلاميا كبيرا، وهو ما يعني أن مبد الإصلاح السياسي أصبح ضرورة ومطلبا ملحا في بلد كلبنان في ظل وجود العديد من العوائق الحقيقية أمامه، لكنه يتمتع بوجود آليات ذاتية لعملية الإصلاح من الداخل، ووجود مؤسسات رقابية وهو ما يؤثر على التغيير السياسي بداخله.
إن التغيير المجتمعي يأتي استجابة لعوامل متعددة ومختلفة وقد يأتي نتيجة احتقان داخلي أو بقيادة مؤسسات سياسية غير رسمية (قوى ضاغطة. أحزاب سياسية، رأي عام)، كما قد يكون نتيجة تغيرات أو أزمات اقتصادية أو بيئية أو ضغوط خارجية أو متأثرا بفعل حركات اجتماعية خارجية في إطار ما يعرف بنظرية الدومينو والتي طرحت بقوة أواخر سنة 2010 حين قامت ثورة تونس تلتها موجة من الاحتجاجات والاضطرابات في العديد من الدول العربية واحدة تلو الأخرى، واجتاحت حمى المظاهرات والثورات أغلب الدول العربية.
ان الحركات الاجتماعية تشكل الوسيلة الأنسب المؤدية إلى تحقيق التغيير السياسي في لبنان، فالحركة الاجتماعية جزء لا يتجزأ من سياسة تفاعلية بين النظام والمجتمع، فهي لا تتموقع خارج الدولة ولكن داخلها، وتتغير مضامينها وأهدافها ومحدداتها بتغير المزاج الأجتماعي وبقدرة الدولة على الاستجابة لمطالب المواطنين واحتياجاتهم التي تتم صياغتها على شكل مطالب وقد تؤدي إلى حراك حقيقي يتحول إلى التظاهر والاحتجاج والتنظيم، وتعد هذه المظاهر من الأساليب المهمة في التعبير عن مطالب فئات واسعة من المواطنين في التغيير الذي قد يبدا بمطالب اجتماعية وتنتهي بمطالب سياسية.
وما يلاحظ في النموذج اللبناني أن الحركة الاجتماعية والاحتجاجات التي رأيناها في ما سمي ب “ثورة ١٧ تشرين” استهدفت اهل السلطة ولم تعتمد على صياغة حلول ومشاريع للخروج من الأزمة والتي شملت كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية.
في الواقع، لا يمكن فهم الحراك الاجتماعي الذي اجتاح العديد من المناطق اللبنانية بعيدا عن مسار التاريخ واعتبارها أحداثا انفعالية وغير منطمة، وخاصة وأنها لم تتمكن من إنهاء حكم الطبقة السياسية التي تربعت على عرش السلطة لمدة طويلة مستخدمة كل ما توفر لها من مقومات الحكم، وأصبحت واقعا سياسيا واجتماعيا فعليا، فكان لا بد من الوقوف أمام هذه الظاهرة الاجتماعية وطرح تساؤلات حول طبيعتها وهل هي ثورة أم احتجاجات شعبية، وخاصة وأن الكتابات النظرية عن موضوع الثورة مشتقة غالبا من ثورات بعينها، تعمم استخلاصاتها من ثورات معينة، ولذا يصعب إطلاق تسمية “الثورة” على ما شهدناه مؤخرا والذي أدى إلى دخول حفنة من المنتفعين إلى الندوة البرلمانية قبل ان يتحولوا إلى مجموعات نيابية تتصارع في ما بينها على الرغم من قلة عددها الذي لا يتجاوز أصابع اليد؛ وبالتالي فشلها في تطوير تطلعات تقودها إلى صياغة مطالب رمزية أو مادية تفرضها على النظام السياسي.
هناك عوامل مختلفة على رأسها استشراء الفساد في إدارات الدولة وانتهاك حقوق الإنسان والفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي والبطالة وتوالي الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ وهو ما جعل نظام الحكم في لبنان بيئة لنمو وتطور العنف كاعتراض على الأوضاع القائمة أو رد فعل أو رغبة بالتغيير بالقوة.
ولا ترتبط ظاهرة العنف السياسي بعوامل داخلية فقط ولكن أيضا خارجية، ومن بينها تدخل دول خارجية في شؤون اللبنانيين أو تدخلات مشبوهة عن طريق تمويل جماعات او قوى او أحزاب سياسية معينة تخدم أجندتها بهذه الدول.
وعليه؛ يصعب تقديم وصفة جاهزة للحد من ظاهرة العنف السياسي، وخاصة مع توسع حجم الظاهرة، وطبيعة القوى المنخرطة فيها ولكن بات من الملح إعادة النظر في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وأيضا السياسية، والمشاركة السياسية في الحكم لا يمكن أن تتحقق في دولة تسلطية ولكن في دول تتمتع بسيادة القانون وتضمن حرية المنافسة ، وضمان العدالة الاجتماعية، للتداول السلمي للسلطة فضلا عن ضمان نزاهة الانتخابات وضمان فصل السلطات، واحترام التنوع والخصوصيات الاجتماعية.
إن وصول لبنان إلى مرحلة الفوضى والعنف والاقتتال الداخي جعل من النقاش حول أزمة الدولة أمرا ملحا بل ومصيريا، وترتبت عنه مآسي كثيرة اصابت جميع اللبنانيين على مختلف مشاربهم السياسية والاجتماعية حيث لم يبق البديل أمامهم سوى انشاء نظام يستجيب لقيم المواطنة وتقبل الاختلاف والمعارضة، ومؤسسات دستورية قوية وإقامة دولة عصرية بمفهومها الحديث قائمة على مبادئ المحاسبة والشفافية ومساواة المواطنين أما القانون، واحترام الحقوق والحريات، واستقلالية القضاء.
تأسيسا على ما سبق يمكن تحديد أزمة الدولة في لبنان في ثلاث مستويات:
1- دول منهارة بسبب فقدان السلطة المركزية وسيطرة الفاسدين عليها ووقوعها في مستنقع الفوضى والاضطرابات الداخلية مع حضور قوي للاعتبارات الطائفية والمذهبية وحتى التدخلات الخارجية. .
2- نظام سياسي ممسوك وليس متماسك مع وجود خطر انقسامات داخلية وصراعات قوى سياسية ومجتمعية وطائفية؛ مع انهيار اقتصادي وهو ما يؤدي إلى تراجع للدولة عن أداء دورها المنوط بها في الأمن وتقديم الخدمات والحفاظ على العملة الوطنية… وهو ما يجعلها دولة غير فاشلة ولكن على قدر كبير من الهشاشة.
3- تعثر التحول الديمقراطي بفعل هيمنة منظومة الحكم وغياب الإرادة في الإصلاح، وتشرذم “المعارضات” يعبر عن أحد وجهي السياسة اللبنانية في هذا السياق، في حين يتجلى الوجه الآخر في ضعف متنام للدولة الوطنية وتآكل خطير في شرعيتها المجتمعية. الدولة الوطنية كادت أن تفقد المعنى والمضمون في لبنان ، بعد ان توارى مشروعها التحديث؛ وتم اختطافها وتعطيلها إلى حد بعيد من قبل مصالح طائفية وقبلية وعشائرية .
لقد أخفقت الدولة في لبنان في انجاز مهمة دمج قوى وكيانات المجتمع في إطار حكم القانون والحقوق المتساوية بين المواطنين وشيء من التوزيع العادل للثروة، كما في تحقيق الأهداف التنموية وتقديم الخدمات الرئيسية في قطاعات حيوية كالتعليم وفرص العمل والصحة والاستشفاء والضمانات الاجتماعية وهو ما جعل الساحة السياسية تخضع لأكثر من فاعل في نفس الوقت.وهو ما ينذر بأن المرحلة الحالية شديدة الحساسية وتشكل مخاضا عسيرا يلقي بظلاله على مستقبل بناء الدولة في لبنان الذي يحتاج ليس فقط إلى تفعيل قيم المواطنة وبناء النسيج الوحدوي للدولة، ولكن أيضا إلى تجاوز مخلفات الصراعات الداخلية ، حيث تضرر الاقتصاد وتم تدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية، وعدم الوصول إلى الحل وفشل تسويات الحوار زاد من إطالة أمد الصراعات والتي تبدو أنها لن تنتهي في الوقت القريب، بل يبدو أنه يزداد تعقدا مع التدخلات الخارجية التي تحاول الاستفادة من الوضع لصالحها وخدمة لأجنداتها الخاصة، وهو ما ينذر باستمرار حالة الفوضى واللااستقرار.
لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن مجرد أزمة عابرة للكيان اللبناني بقدر ما يمكن الحديث عن مأزق حقيقي في ممارسة الحكم وانعدام فكرة التداول السلمي للسلطة وتعطيل المؤسسات الدستورية وعدم القدرة على اللحاق بركب الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على فكرة الدولة لكل المواطنين بمختلف تلاوينهم الدينية والعرقية والإثنية، وأي تغيير في هذه المعادلة من شأنه أن يكون مقدمة لانفجار داخلي بين مختلف مكونات المجتمع وخاصة من قبل الفئات الأكثر تضررا، وهذا ينعكس سلبا على النظام السياسي فيما بعد، حيث يجد نفسه في صدام معها وهو ما يؤدي إلى استفحال الأزمة في حال لن نسارع إلى اجتراح الحلول الممكنة والتي تبدأ من الحديث عن مجلس الشيوخ الذي يشكل البوابة العبور إلى فكرة الوطن والمواطنة؛ ومن هنا نقطة الانطلاق في رحلة الألف ميل.
الحوار المجتمعي.