
قضية بسام الشيخ حسين .. ونظام “استيفاء الحق بالذات” !! – د. هشام الأعور
"استيفاء الحق بالذات".
بعد سنوات من قهر المودعين واخضاعهم لحكم المصارف الجائر برزت بروفا صغيرة لأوجاع الناس وأرزاقهم تمثلت بدخول المواطن اللبناني بسام الشيخ حسين الى مصرف “فدرال بنك” فرع الحمرا محتجزا عددا من الموظفين ومطالبا بتسديده مبلغ وقدره 210 آلاف دولار المودع منه. وتداولات وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي انه كان حائزا على مادة البنزين فيما اظهرت الصور انه كان بحوزته سلاح حربي من نوع pump action وهدد باستعمالِهما في حال عدم الوصول إلى غايته وتاليا بحرق الفرع بمن فيه وما فيه.
فور الإعلان عن هذا الحادث، انتشرتْ بشكلٍ واسع علامات التأييد والتعاطف، على خلفيّة أنّه نجح في خرق منظومة مصرفيّة سطتْ على أموال عشرات آلاف المودعين الذين وجدوا أنفسهم من دون أي حماية قضائية فعالة لحقوقهم الأساسية. وهذا ما عبّرت عنه بشكل خاصّ جمعيّة المودعين التي قالت: ” والد المودع المسلح موجود في المستشفى ويحتاج علاجا بقيمة 50 الف دولار. ومنذ تشرين 2019 سرقت المصارف جنى عمر اكثر من مليوني مودع، وهربت المصارف الاموال الى حسابات اصحاب المصارف والسياسيين خارج لبنان”.
ويجدر التّذكير بأن هذه الحادثة تأتي تبعا لحوادث متفرقة حصلت للاسباب نفسها حيث قام المواطن عبدالله الساعي بدخول بنك بيروت والبلااد العربية فرع جب جنين مطالبا بتسديد المبلغ المودع منه، فضلا عن قيام موظّفان من موظفي مصرفيْن مختلفيْن إلى إجراء قيود لسحب قيمة ودائعهما: الأول موظف في مصرف الاعتماد اللبناني فرع برج البراجنة وهو نائب مدير استغلّ تولّيه مسؤولية إدارته بسبب غياب المدير وقد عمد إلى سحب مبلغ تضاربتْ المعلومات حول قيمته بين 142 ألف أو 300 ألف دولار قبل ما يغادر الأراضي اللبنانية، والثاني موظف في لدى مصرف الاعتماد في فرع الجديْدة وقد استطاع سحب وديعته البالغة قيمتها 256 ألف دولار، سدّد منها 56 ألف دولار كقرضٍ متوجّب عليه وأخذ الباقي. تمّ القبض على هذا الأخير وهو في المطار بناء على إشارة المحامية العامة في جبل لبنان نازك الخطيب بتوقيفه ومنع سفره وذلك على خلفية ادّعاء قدّمه المصرف ضدّه بارتكاب جرّم سرقة. إلا أنّه بعد التحقيقات التي أجرتْها القاضية الخطيب وإبراز الموظف المدّعى عليه مستندات تُثبت امتلاكه حسابًا بقيمة الأموال التي أخذها من المصرف، أصدرت قرارا بتركه بسند إقامة قبلما تدعي عليه أمام القاضي المنفرد الجزائي في المتن ليس بجرم السرقة المدعى به، بل بجرم استيفاء الحقّ بالذات سندا للمادة 429 من قانون العقوبات .
ما هو موقف القانون اللبناني من هذه المعطيات وهل يسمح بالتالي من استيفاء الحق بالدات عندما تعجز السلطة عن تأمين العدالة لمواطنيها؟
بفعل هذه المعطيات المذكورة اعلاه ، بدا بوضوح انعدام دور القضاء بل عجزه في حماية المودعين والمواطنين عموما، الذين تحولوا إلى ضحايا لنظام فاسد يجرّم المظلوم ولا يعاقب القاتل. ومن غير المُستغرب في ظلّ ظروف كهذه قوامها انحلال الدولة وانعدام الحس القانوني وغياب اعتبارات العدالة وديكتاتورية المصارف وفجور المنظومة الحاكمة أن يستشعر هؤلاء أنه لم يعد لهم طريق للوصول إلى حقوقهم سوى استيفاء الحق بالذات وبالوسائل غير العنفية التي قد تتوفر لهم. وبالتالي المحاولة بالعودة بنا الى المبدأ الذي كان سائدا في العصور القديمة وهو مبدأ الانتقام والثأر الفردي والجماعي، فالشخص كان يستوفي حقوقه بنفسه بدون اللجوء الى سلطة معينة للعقاب وذلك قبل ان تنضج الحاجة القانونية التي تهذبها الأخلاق، وباعتماد خيار العدالة في الفكر الانساني لتكون محل الانتقام الفردي والجماعي، ومن خلال نشوء سلطة مختصـة للملاحقة وفرض العقاب استناداً الى وجـوب مقابلة شر الجـريمة بجـزاء، لإرضـاء العدالـة عـبر الاقتـصاص من المذنب.
وقد اصبح من المبادئ الراسخة، في أغلبية المجتمعات، أن الجريمة تخلّ بأمن المجتمع واستقراره، وتستوجب ملاحقة من ارتكبها وانزال الجزاء به. واذا كانت الملاحقة والعقاب قد تولاها في العهود القديمة الشخص الذي وقعت عليه الجريمة عن طريق الثأر بنفسه من الذي اعتدى عليه، فإن الدولة أمست، بعد أن قامت مقوماتها وقوي سلطانها، تتدخل في الملاحقة والمحاكمة والاقتصاص من المجرم، عبر السلطة القضائية المستقلة والمختصة.
كرّس قانون العقوبات اللبناني هذا المبدأ بتجريمه الأفعال المؤدية الى استيفاء الحق بالذات، فقد نصت المادة 924 منه على انه «من أقدم على استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بنزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فأضر بها، عوقب بغرامة لا تجاوز المئتي ألف ليرة». ثم نصت المادة 430 عقوبات على أنه «اذا اقترف الفعل المذكور في المادة السابقة بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء على اكراه معنوي عوقب الفاعل بالحبس ستة أشهر على الأكثر، فضلاً عن الغرامة المحددة أعلاه. وتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر الى سنتين اذا استعمل العنف أو الاكراه شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو غير مسلحين».
عناصر جريمة استيفاء الحق بالذات:
يتبين من النصوص القانونية أن جريمة استيفاء الحق بالذات تستوجب توافر العناصر التالية:
1- أن يكون المجرم صاحب الحق الذي يستوفيه.
2- أن يستوفي هذا الحق بالذات، اذا كان في حيازة الغير أو استعمل العنف وأضرّ بالأشياء.
3- أن يكون بإمكانه مراجعة السلطة المختصة للوصول الى حقه، فلم يلجأ اليها بل استوفاه بالذات.
الاستثناءات على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات
لم يأت مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات مطلقاً، بل ثمة بعض الاستثناءات التي نص عليها القانون وأهمها ما يلي:
- حالة الدفاع المشروع:
كرّس المشترع اللبناني الدفاع المشروع كسبب من أسباب التبرير التي تمحو الجريمة، حيث يُباح للجميع الدفاع عن أنفسهم لرد الاعتداء عند تعذر الالتجاء الى أجهزة الدولة لتوفير الحماية التي قد تأتي متأخرة. فنصت المادة 184من قانون العقوبات على أنه: «يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غير محق ولا مُثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. واذا وقع تجاوز في الدفاع أمكن اعفاء فاعل الجريمة من العقوبة في الشروط المذكورة في المادة 228». وقد اعتبرت المادة 228 عقوبات أنه اذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع، لا يعاقب في حال اقدامه على الفعل في ثورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو ارادته.
ويشترط القانون لتوافر حالة الدفاع المشروع عدة شروط، أهمها: وجود التعرض أو خطر الاعتداء الذي يهدد النفس أو المال، وأن تقضي به ضرورة حالية أو خطر محدق أو داهم، وأن يكون الخطر لا يزال مستمراً أو قائماً عند الدفاع المشروع، وأن يكون التعرّض غير محق أو غير مشروع أي يهدد حقاً يحميه القانون، وأن يكون التعرض غير مثار أي ألا يكون المدافع هو مصدر الخطر وهو المتسبب فيه. كما يجب أن يكون التعرض مهدداً للنفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، سواء أكان شخصاً طبيعياً أم معنوياً (كجرائم الاعتداء على حياة الانسان وسلامته كالقتل والايذاء، أو جرائم الاعتداء على العرض كالاغتصاب، أو الجرائم الواقعة على الحرية كالخطف، أو الجرائم الماسة بالشرف كالقدح والذم) ويجب التقيّد في الدفاع بأن يكون لازماً ومتناسباً مع الخطر الواقع وهو متروك لتقدير المحكمة.
وعلى هذا، ان الدفاع المشروع يعطي المعتدى عليه الحق في أن يقتل اذا كان القتل لازماً وضرورياً لإنقاذ حياته والا كان هو المقتول، ويعطيه الحق في أن يضرب اذا كان الضرب لازماً للدفاع عنه والا كان هو المضروب، اذ ان الدفاع المشروع يعد ممارسة حق قضى به الظرف القائم.
فيعتبر الدفاع المشروع استثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات. فهو سبب للتبرير العام، وحق موضوعي مطلق مقرّر لجميع الأفراد لدرء الأخطار التي تهدّدهم عند استحالة اللجوء الى الأجهزة المختصة لاستيفاء الحق أو لمنع وقوع الضرر، وذلك تغليباً لمصلحة المعتدى عليه على مصلحة المعتدي الذي أهدر حماية القانون له بخروجه على قواعده.
- حق الاضراب:
يعتبر الاضراب بمثابة السلاح الذي يلجأ اليه العمال اثر فشل كافة وسائل الاقناع والتسوية للمطالبة بالحقوق العمالية المحقة والمشروعة. ويمكن تعريف الاضراب بأنه توقف العمال الجماعي عن العمل بقصد الضغط على رب العمل من أجل تحسين شروط العمل. ويعتبر الاضراب مظهراً من مظاهر الحرية النقابية في لبنان.
وقد أشار قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم تاريخ 2/9/1974 الى حق الاضراب في المادة 63 التي نصت على أنه «يكون غير شرعي كل توقف عن العمل من قبل الأجراء أو أرباب العمل بسبب نزاع عمل جماعي قبل وأثناء مرحلة الوساطة وأثناء مرحلة التحكيم».
كما نصت المادة 10 من الاتفاقية العربية (رقم 8) للعام 1966 بشأن الحريات والحقوق النقابية، على انه للعمال حق الاضراب للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية بعد استنفاد طرق التفاوض القانونية لتحقيق هذه المصالح. وقد سلّم الفقه والاجتهاد اللبناني بقانونية الاضراب ضمن شروط معينة. وأصبح الاضراب حقاً يلجأ اليه العمال للمطالبة بحقوقهم المشروعة ضمن شروط وظروف معينة، وتجيزه كذلك المادة 8 من اتفاق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تاريخ16/12/1966.
ويجب أن يكون الاضراب مؤقتاً، وفي الفترة الواقعة بين مرحلتي الوساطة والتحكيم وهي مدة 15 يوماً وفقاً للبند «د» من المادة 47 من قانون 2/9/1964، كما يجب أن يكون له الطابع الجماعي، أي أن يقوم به عدد من العمال يتجاوز الأجيرين، وأن يقصد الى تحقيق مطالب مهنية، اقتصادية واجتماعية للعمال (مثل زيادة الأجور)، ولا يجوز أن يكون الاضراب لتحقيق غايات سياسية، كما لا يجوز لغير العمال ممارسة حق الاضراب، فلا يحق للموظفين الاضراب عن القيام بوظائفهم الرسمية وفقاً للمادة 15 من قانون الموظفين الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 112/1959. وبذلك، يعتبر حق الاضراب استثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات، اذ يجوز للعمال، ضمن شروط قانونية محددة، ممارسة حق الاضراب للمطالبة بحقوقهم المشروعة.
- الدفع بعدم التنفيذ وحق حبس الأموال:
أشارت المادة 271 من قانون الموجبات والعقود الى حق كل من الدائن والمديون بأن يمتنع عن تنفيذ موجبه ما دام الفريق الآخر لم يعرض القيام بما يجب عليه، بدون ضرورة اللجوء الى القضاء.
وقد اعتبرت محكمة التمييز اللبنانية في قرارها الصادر بتاريخ 9/5/1991 هذه الوسيلة بأنها وسيلة اكراه لحمل الفريق الآخر على انفاذ موجباته، ولا يتعداها الى حدود الغاء العقد أو فسخه، وأنه من البديهي أن يمتنع المتعاقد عن تنفيـذ موجباته طالما ان المتعاقد الثاني لم يقم بتنفيذ ما تقيد به في العقد.
وقد مزج المشترع اللبناني في المادة 271 موجبات وعقود بين الدفع بعدم التنفيذ وبين حق الحبس الذي يسمح لدائن بموجب أن يمارسه على شيء بين يديه، فلا يتخلى عنه الا عندما يستوفي حقوقه ممن يعود له هذا الشيء أو ممن عهد اليه به للقيام بعمل معين كالصناعة أو الوديعة.
كما مزج المشترع اللبناني بين الدفع بعدم التنفيذ وحق الحبس في المادتين 410 و411 موجبات وعقود عندما نص على أن البائع لا يُلزم بتسليم المبيع وان يكن قد منح الشاري مهلة للدفع اذا أصبح المشتري في حالة اعسار بعد انعقاد العقد، أو اذا كان في حالة الافلاس أو التصفية القضائية عند البيع مع جهل البائع لحالته، أو اذا أنقص التأمينات التي قدّمها ضماناً للدفع حتى أصبح البائع مستهدفاً لخطر هلاك الثمن.
كذلك، لحظ المشترع اللبناني حق الحبس في عقد الوكالة وسمح للوكيل بأن يحبس عنده منقولات الموكل أو بضائعه التي سُلمت أو أرسلت اليه حتى يستوفي حقوقه تجاهه وفقاً للمادة 798موجبات وعقود..
بذلك، يكون الدفع بعدم التنفيذ وحق الحبس استثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات، فيجوز للدائن أو المدين، من دون ضرورة اللجوء الى المحكمة المختصة، أن يمتنع عن تنفيذ موجبه أو يحبس شيئاً يملكه الطرف الآخر، من أجل اكراه هذا الأخير على تنفيذ موجباته.
- بند الالغاء الحكمي:
المبدأ الأساسي في الغاء العقود هو عدم وقوع الالغاء الا بموجب حكم من المحكمة المختصة وفقاً للفقرة الثالثة من المادة 241 من قانون الموجبات والعقود. الا أن الفقرة الرابعة من المادة ذاتها أعطت للمتعاقدين حق الاتفاق في ما بينهم على اعتبار العقد ملغى حكماً عند عدم التنفيذ وبدون واسطة القضاء، وهذا الشرط لا يغني عن انذار يقصد به اثبات عدم التنفيذ على وجه رسمي. ويمكن أيضاً الاتفاق على عدم وجوب الانذار شرط أن يكون البند الذي يعفي من التدخل القضائي ومن الانذار مصوغاً بعبارة جازمة صريحة، مما يعطي الحق للمتعاقدين بالاتفاق على الغاء العقد حكماً من دون ضرورة اللجوء الى السلطة القضائية المختصة، كاستثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات.
- المقاصة:
عرّفت المادة 328 من قانون الموجبات والعقود المقاصة، فنصت أنه «اذا وجد شخصان وكل منهما دائن ومديون للآخر، حق لكل منهما أن يقاص الآخر بما له قبله على قدر المبلغ الأدنى من الدينين». كما اعتبرت المادة 329 موجبات وعقود أن المقاصة لا تجري الا بين الديون التي يكون موضوعها نقوداً أو أشياء ذات نوع واحد من المثليات. والغالب أن تتم المقاصة بالنقود، وبها ينقضي الدينان تماماً اذا كانا متساويين في المقدار، أما اذا لم يتساويا فإنهما ينقضيان بنسبة أصغرهما وأقلهما، والفرق بينهما يفيه المدين الى دائنه. ولا يدخل في المقاصة الا الديون المحررة والمستحقة الأداء وفقاً للمادة 330 وما يليها من قانون الموجبات والعقود.
واعتبرت المادة 332 موجبات وعقود أن المقاصة لا تجري حتماً، بل بناء على طلب أحد الفريقين وهي تُسقِط الدين في اليوم الذي تتوافر فيه الشروط اللازمة لإمكان التذرع بها.
فيتبين أن للمتعاقدين الاتفاق على اجراء المقاصة بين الديون المترتبة لهـم وعليهم من دون ضرورة اللجوء الى القضاء المختص. وبذلك، تعتبر المقاصـة استثنـاء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات من دون ضرورة اللجوء الى السلطة القضائية. الا أنه عندما يقع الخلاف بين الدائن والمدين حول صحة وآلية اجراء المقاصة يتم اللجوء الى المحكمة المختصة لحل النزاع المطروح.
وعليه، يتبين أن مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات هو القاعدة الأساسيـة السائدة، ولا يستثنى منها سوى ما نصّ عليه القانون بصورة خاصة وواضحة. فيعتبر استيفاء الحـق بالذات جريمة يعاقب عليها، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
استنتاج:
على ضوء ما تقدم، لا يمكن فصل المسؤولية الجزائية لبسام الشيخ حسين عن عجز نظام العدالة عن ضمان حقوقه، بما حرمه من مدّخراته وحوّله إلى ضحيّة له. وتثبت وقائع الحادثة التي تداولتْ بها وسائل الإعلام أن نيته لم تذهب نحو الإضرار بالغير (المصرف أو مدرائِه وموظّفيه)، بل فقط لاستيفاء حقّه الذي سطا المصرف عليه من دون زيادة. ومن شأن هذه المعطيّات أن تكون حاسمة في توصيف الفعل وتحديد المسؤولية. ففي حين أنه لا مكان للادّعاء بالسّرقة لمن استعاد وديعته إنما فقط بجرم استيفاء الحق بالذات ، فإن أيّ عمل عنفي أو تهديد قد يثبت أنه قام به لهذه الغاية (وهو يستدعي التشدّد بحقّه بحسب قانون العقوبات) يقبل أوسع الأسباب التخفيفية نظرا لكونه قبل كلّ شيء ضحية وتحديداً ضحية مصارف سرقت اموال المودعين وأعلنت نفسها فوق القانون. كما أنه يلحظ نتيجة لذلك أنه ليس للمصرف المطالبة باسترداد أي مبلغ طالما أن المبلغ الذي يطالب به المودع هو أصلا حقّ له ممّا يوجب على النيابة العامة اعدم وضع اشارتها بضبط المبلغ المذكور بعد استيفائه من قبل المودع.
وعليه، يشكّل هذا الفعل (اضطرار الضحية على اللجوء إلى وسائل عنفيّة لتحصيل حقّها مع ما يستتبع ذلك من مخاطر واقعيّة وقانونيّة عليها) قبل كلّ شيء شاهدا على مستوى الاجرام الذي وصل إليه النظام اللبناني وإدانة له ولكل من يسهم بدعمه بطريقة أو بأخرى، وفي الآن نفسه جرس إنذار لا يمكن تجاهل تداعياته الخطيرة على المجتمع ، يحذر من مخاطر الاستمرار في نفس الفجور والديكتاتورية بما يقوّض الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي. ومن هذه الزاوية، بإمكاننا القول بأن هذا الفعل الذي مارسه المودع هو بمثابة حركة تمرد على المظالم قد تمتد شرارتها الى اماكن أخرى فتُحرّك المياه الراكدة وتضع المنظومة الحاكمة أمام مسؤولياتها التي طالما تنازلت عنها. وما يزيد من قوة هذه الحركة هو الالتفاف الشعبي من حولها على اعتبار أن اللجوء إلى وسائل عنفيّة لاستيفاء الحقّ بالذات أصبح الطريقة الوحيدة المتاحة بعدما ثبت فشل كل الوسائل الأخرى.
ومن المهمّ في هذا الصدد، ومع تفهّمنا الكامل لمشاعرالمودعين بالقهر واليأس وما قد يقدمون عليه من جراء ذلك وتأكيدِنا على انه من الظلم التركيز فقط على محاسبة الضحية أيا كان فعلها في ظل الاستمرار في تجاهل جرائم الجهات التي تسببت بقهرها، التنبيه بأن وسائل كهذه ليست متاحة للجميع وأنّها تشكّل بأحسن الأحوال حركة تمرد على الظلم ترعب السلطة وتحفّز الرأي العام لمزيد من الحراك والمواجهة من دون أن يكون بإمكانها أن تضع بحدّ ذاتها حدّا للمظالم المعمّمة والتي حوّلت المجتمع برمّته إلى مجتمع من الضحايا. وأكثر ما يجدر التحذير منه في هذا الخصوص هو أن تكون القوى نفسها المستفيدة حاليا من نظام الفوضى والإفلات من العقاب ومنها المصارف والمنظومة الحاكمة هي نفسها المستفيدة من عودة نظام “كانتونات الحكم الذاتي” او ما كان يعرف ب ” الادارات المدنية” في زمن الحرب وما قبل الدولة بالنظر إلى فائض القوة الذي تتمتع به.
وعليه، ومهما بلغ التعاطف مع اصحاب الحقوق والمظلومين ومحفزات ثورتهم وتمردهم وانتفاضتهم وآثارها الإيجابية على الحراك العامّ، لا يجب أن ننسى أنّ وضع حدّ للظلم الذي تسببه الكانتونات المستبدة يتم بمزيد من الدولة وليس بمزيد من الفوضى والتفلت وبالتالي اللادولة.
الحوار المجتمعي.