إصداراتالمقالاتمواضيع ودراسات

مقدّمة كتاب “مجلس الشيوخ ومسألة تطبيقه في لبنان” بقلم القاضي الدكتور غالب غانم

مجلس الشيوخ في لبنان

 

    أَعادني هذا الكتاب إلى مداولاتٍ تمّت منذ سنوات في هيئة تحديث القوانين لدى المجلس النيابي، حينَ حاولتْ هذه الهيئة، بمبادرة تلقائية من رئيسها النائب المرحوم روبير غانم، الخوضَ في بعض المسائل اللصيقة بموضوع مجلس الشيوخ وفي صدارتها الصلاحيّات التي يُستحسن أن تحظى بها هذه المؤسسة المنشودة. آنذاك، كان يعترينا شعورٌ بأنّ مسألة تطبيق مجلس الشيوخ في لبنان تترجّح بين الواقع والخيال، والطائف والطوائف، والإصلاح وذَرّ الرماد في العيون، والممكن والمستحيل. ولكنَّ المحاولة ظلّت في طوالعها الأولى لأنّ متابعة السّير بها تخلو من الجدوى طالما أنّ هذه الخطوة المنتظرة من خطوات اتفاق الطّائف لم تحظَ بالتزكية السياسية اللازمة، وقُلْ بالتزكية الطائفية التي تكون لها الغلبة في مثل هذه المنعطفات.

  ولكنّ العلم وما يحمله من حيادٍ وتجرّدٍ وتوازنٍ ومنطقٍ ومنهجيّة لا يخشى الأبراج البابليّة ورَمْضاءَ الرّمال وأيَّ لونٍ آخر من ألوانِ البلبلةِ والغليان. وهذا ما يسمو بالطرح الى مستواه اللائق، سواء أكان في رحاب الجامعة، أم في دوائر البحث الحرّ، أم في أيّ أفقٍ آخر ينعتقُ من المكبِّلِ والنّفعيّ والمنفلتِ مع الغرائزِ والشهوات.

***

   بمقاديرَ كافيةٍ وافية من الحياد والتجرّد والتوازن والمنطق والمنهجيّة قارب صاحبُ هذا المؤلَّف إشكاليّة مجلس الشيوخ في لبنان، منذ ولادة الدستور الأوّل الذي أنشأه، مروراً بإجهاضه المبكّر، وتتبّعاً للآراء وأوراق العمل والمؤتمرات ومشاريع القوانين التي تناولته، وصولاً الى ما تعلّق به في وثيقة الوفاق الوطني وفي الدستور الأخير.

   سبقت ذلك جولاتٌ تاريخيّة وقانونية استلهمت أنظمةً عريقة في الثنائية، رومانيّة قديمة، أو فرنسية وأميركيّة حديثة، مع تبسّطٍ في بنياتها وفي ما تحمله من حسنات وسيّئات تطالُ مسار الحكم.

   وكان طبيعيّاً أن تشكّل هذه الجولات خلفيّة فكريّة تتيح الاعتبار بما هو قائم من الأنظمة، وتقوم بالمقارنة من دون أن تُغفل مقتضى السّاحة والساعة، عنيتُ ما يفرضه الزمان والمكان من خصوصيّة تواكب نشوء المؤسسات وتطوّرها.

  وتلتِ المحورين السابقين عصارةُ البحث تحت عنوان “مجلس الشيوخ في لبنان: صيغة قابلة للعيش؟” وعصارةُ العصارة تحت عنوان: “صيغة مقترحة ذات أفقٍ مفتوح”، لفتَني فيها أنّ الباحث تجرّد تجرّداً مطلقاً من الغلالة الطائفية وقدّم مقتَرَحاً لهيكليّة المجلس وصلاحيّاته ودوره يُثبت صلابة الدكتور هشام الأعور وانتسابه الى قلعتين حصينتين: العلم والوطنيّة.

***

   فوقَ ذلك، يتبدّى للمتبصّر المتّجهِ الى تلمّس ما هو أبعد من المعلومةِ التاريخيّة والمعطى الواقعي، أنّ في مطاوي الكتاب حرصاً على فضيلةٍ من فضائل النفس، ومن فضائِل العلم أيضاً، هي التوازن. وما أدراكَ ما أهميّةُ التوازن عندما يكون الطرح شائكاً والجدلُ قائماً والطائفيةُ مستعِرةً واحتكارُ المعرفة سائداً ومصيرُ المواطن، لا بل الوطن، في مهبّ الأرياح!.

   أَلْمَحَ المؤلّف الى التوازن منذ أن وضع أرسطو الأساس الأوّل لمبدأ الحكم المثلّث الاهتمامات. وبَعدَه يوم اقتضت الضرورة في روما أن يحدّ مجلس الشيوخ ومجلس الشعب من جنوح أيّ منهما نحو التسلّط. وبعدهما حينَ أطلق مونتسكيو قاعدة الفصل ما بين السلطات واعتبر أنّ من وظائف أيّ منها أن تلجم شقيقتيها حتى لا تجمح ولا تتفرّد. إلى أن ألقى الضوء الكاشف على المواجهة بين الحكمة في مجلس الشيوخ الفرنسي والحماسة في الجمعيّة الوطنيّة.

   ولم يكتفِ بهذه الإلماعات، بل كان، هو ذاته، وفيّاً لما دعا اليه، وكان ربيبَ الحكمة والتوازن، في الرأي والموقف وحتى في الصّوغ الذي اجتنب الغلوِّ والتطرّف. وهو، إذ خشي مثل هذا النزوع لدى حديثه عن الصعوبات التي واجهته، ذكرَ الصعوبة النابعة من الطبيعة الشخصيّة للتحليل وما قد ينطوي عليه من انحياز، من هنا أنّه”بذل جهداً كبيراً من أجل التحلّي بقدر معقول من الموضوعيّة في التحليل لا سيّما في الجانب المتعلّق بمجلس الشيوخ اللبناني”، كما يقول.

  وحبّذا لو اهتدى المعنيّون بمجلس الشيوخ بالكثير ممّا ورد في هذا البحث، مضموناً ونهجاً في التعاطي مع مسألة دستوريّة تاريخيّة لا تحتمل تأجيج المواقف وتغليب الخاص على العام. إنّ الاهتداء بالأعمال الجيّدة الصالحة الهادئة هو أيضاً من الفضائل.

   في نهاية هذا التقديم الذي لم أشأ عبره مناقشة بعض ما جاء في الكتاب مناقشة علمية تفصيليّة، لضيقِ المقام، أقول جازماً إنّ صاحبَنا، الدكتور هشام الأعور، هو في الحقيقة رجلُ علم، ورجلُ موضوعية بامتياز. وإنّ الانحياز لم يجدِ طريقاً الى بحثه الرّافل بالفكر النيّر، وبالآفاق المفتوحة، وبالأمل في أن نرفع بلدنا الى مرتبة الوطن بعد أن جعلنا منه دولةً كما يقول في خاتمة الخاتمة… هذا إذا كنّا فعلاً قد جعلنا منه دولة!.

 

القاضي الدكتور غالب غانم

رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً

رئيس مجلس شورى الدولة سابقاً

 


 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى